من النادر جدا، إن لم يكن من المستحيل، أن تجد عربيا سوريا يتحدث اللغة الكردية، في حين أنّه من النادر جدا أن تجد كرديا لا يتحدث العربية. هذا أحد منتجات الاستبداد الذي أقصى الثقافة واللغة الكرديتين عن السوريين جميعا لتخسر سوريا فضاءها الثقافي المتعدد والمتنوع لصالح أحادية عربية كرسها الاستبداد، مستخدما إياها في ضبط سلطته وقمع السوريين (عرب وكرد).
من هنا تأتي أهمية تكوين أوّل إذاعة باللغة الكردية في سوريا، حملت اسم " آرتا إف إم" وتبث من عامودا التي كانت من أوّل المدن السورية المنضمة ( نيسان 2011) إلى حركة الاحتجاج ضد الدكتاتورية، ليكون هذا الحدث على بساطته استثنائيا، و ليس طبيعيا في سوريا التي كان يمنع على مواطنيها الكرد الحديث بلغتهم، تحت طائلة الاعتقال، فكيف بالعرب؟ لنكون أمام أوّل إنجاز عملي للانتفاضة السورية التي هزّت عرش الاستبداد في الفضاء الرمزي، الأمر الذي جعلنا في "سيريا أنتولد Syria untold" نبحث عن الحكاية من بدايتها، لتأريخها وروايتها وتقديمها كواحدة من أهم حكايات النجاح السورية بالاتجاه نحو المستقبل والتصميم على بلوغه، رغم كل التجارب التي تخفق في هذا المجال بسبب المخاض الصعب الذي تعيشه المرحلة الانتقالية السورية في بعض المناطق التي رحل عنها النظام، كالرقة والشمال السوري مثلا.
يقول "ماركس": أن تحلم وحدك، ذلك هو الحلم. وأن نحلم جميعا فذلك بداية تحقيق الحلم". هكذا بدأ حلم مؤسس الإذاعة "سيروان حاج بركو" ، العامل في الإذاعة الألمانية WDR منذ عام 2005 يتبلور حول تأسيس "محطةٍ إذاعية في وطني, وأكون كادراً فيها" كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria nuntold"، حيث عرض المشروع على " مؤسسات الإعلام الأوربية والأمريكية، وقد قدمت لنا مؤسسة سيدا التابعة للحكومة السويدية ومؤسسة أخرى أمريكية مدعومة من الحكومة الأمريكية المساعدة لتحقيق مشروعنا"، لتبدأ الخطوة الأولى نحو الحلم، التي أتبعت بخطوة " تدريب مئة صحفي في كُردستان وتركيا والأردن من أجل خدمة العمل الإذاعي"، ليكتمل كادر الإذاعة المكوّن من " أكثر من أربعين شاب وشابة من الكُرد والعرب والسريان" مما يعكس التنوّع السوري الغني الذي غيّبه الاستبداد، ويسعى السوريون لإعادة إحيائه.
ورغم الكثير من الإذاعات ( سوريالي، روزنا،..) التي تأسست في سوريا مؤخرا، إلا أن مكاتبها خارج البلد، في حين أن "آرتا إف إم" هي "الأولى والوحيدة والمستقلة في سوريا تقوم بإعداد بثِّ برامجها بطاقم سوري داخل سوريا". وهذا يعود إلى جملة عوامل معقدة بعضها يتعلق بالمجتمع الكردي السوري الذي حافظ على نسبة تسييس مقبولة من خلال الأحزاب السياسية الكردية التي لم تغب عن الساحة رغم ضعفها وتقليديتها مما وفر نوعا ذاتيا من الإدارة والتنظيم استثمرها الأكراد بعد رحيل النظام عن المناطق، مستغلين ضعف النظام وعدم رغبته بفتح جبهة كردية ضده، الأمر الذي وفّر جرعة من "الحرية" للمجتمع المدني شرط إدراك حدود اللعبة، حيث "تعمل الإذاعة في إطارٍ رسمي" بعد أن "طلبنا من الهيئة الكُردية العليا رخصة البث" التي "تمّ الحصول عليها.. نحن في حوار مستمر معهم, وهناك مشكلات يومية صغيرة ولكن بشكلٍ عام نعمل بحرية".
عمل الإذاعة في الداخل السوري أمرا متقصدا من خلال الإذاعة التي تعمل على برنامج يستهدف المجتمع من خلال الاهتمام بمشاكله وتوفير فرص عمل تحد من الهجرة، لأنه في الوقت الذي هاجر فيه المئات من السوريين، فإن "إذاعة آرتا سنحت الفرصة لأكثر من أربعين شخصاً كي يعيشوا في سوريا. هدفنا هو زيادة عدد العاملين حتى نسدَّ الباب أمام الهجرة. لا نستطيع أن نقدم العمل للآلاف ولكن كما يقول المثل: إن أنقذتَ روحاً من الموت, كأنك أنقذت العالم كلّه".
توافر الظروف المناسبة لبيئة العمل دفع القائمون على المشروع إلى تكثيف عملهم "قبل البث بشهرين كانت الاستعدادات مستمرة للمباشرة بالعمل الإذاعي, وقد تم تخصيص أربع دورات لتلقين العاملين فيها, منها ما خُصِّصَ للإعلام عامةً ومنها ما كُرِّسَ للعمل الإذاعي بشكلٍ خاص"، لتبدأ الإذاعة عملها بتاريخ 6/7/2013، و ليصدح الصوت الكردي في الفضاء العام لأوّل مرة في تاريخ سوريا الحديثة، من خلال "الأخبار والتقارير واللقاءات والاستطلاعات والبرامج المختلفة بالكُردية والعربية والسريانية وأغلب مواضيعنا نابعة من شوارع المدينة ومنازلها"، ليكسر احتكار السلطة للفضاء العام.
"آرتا إف إم" هي "إذاعة المواطنين ومن أجل المواطنين" وهي " إذاعة مجتمعية .. صاحبة التزاماتٍ مجتمعية" كما تقدم نفسها، مما يحدد أهدافها بحدود ذلك، فهي "لا تملك أجندات سياسية أو حزبية أو دينية أو إيديولوجية"، بل يغدو التزامها الوحيد هو العمل لأجل " قيام مجتمعٍ مدنيّ ديمقراطيّ في المناطق الكُردية في إطار سوريا موحدة وديمقراطية" لأن "تَقبُّل هذا التنوع سيكون إغناءً لمجتمعٍ يسوده العدالة في المرحلة الانتقالية السورية". وهو ما يتجلى عمليا من خلال كادر العمل المكوّن من كوادر عربية وكردية وأشورية تقدّم برامجها بهذه اللغات الثلاث دون أيّ إقصاء، الأمر الذي يجعل منها إذاعة كل مواطن "أكان حزبياً أو غير حزبي, مؤيداً للحزب ما أو مستقلا, متديناً أو ملحداً, متعلماً أو أمياً, شاباً أو عجوزاً".
تركز برامج الإذاعة على "حماية وتطوير حقوق المرأة والطفل" وعلى "أن نُشعر المواطنين بما يجري في حياتهم والأشخاص الذين يعيشون معهم" عبر "تمكين كل مواطن إيصال صوته إلى غيره من المواطنين سواءً كانت من ناحية المشاكل اليومية أو من خلال النشاطات والإمكانات لديه" لذا تؤطر الإذاعة عملها بأبعد من العمل الإعلامي البحت ليصل إلى حدود المجتمع، حيث " كل موظفينا ينزلون للشارع ويأتون بقصص الناس.. كانقطاع الكهرباء والماء وكافة ضرورات الحياة اليومية في المدن"، إضافة إلى الاهتمام بالفن والشباب، فـ "نحن لا نبث أغاني الفنانين الكبار فقط، بل نخصص الوقت الأكبر للأصوات الجديدة في مدننا ونفتح أبوابنا للأطفال والشباب ذوي المواهب".
"آرتا إف إم" رغم أنها تبدو فكرة عادية في أيّ بلد ديمقراطي، إلا أنّها في الفضاء السوري تغدو مؤشرا هاما على كسر عتبة الاستبداد الرمزية الذي عمل عبر عقود على خلق فضاء توتاليتاري قومي يقصي أي قومية أخرى ويمنعها من التعبير عن رأيها، مما يعني أن الإذاعة تشكل إرهاصا أوليا للانتقال من فضاء الاستبداد الواحد إلى فضاء الحرية الرحب على مستوى أوّل، ومثالا جيدا لنجاح السوريين في مأسسة الحرية باتجاه ديمقراطية تحتاج الكثير من المؤسسات للنجاح في مستوى ثاني.