اليوم استيقظت صباحا لأرى حمامة تقف على غاز مطبخي في دمشق الحزينة، ولكن المذهلة بصمودها أيضا. لذا اخترت أن يبدأ مقالي لكم بالأمل الذي بثته في هذه الحمامة في ليل الشام الطويل.
خلف مشهد الحمامة هذا، ثمة سؤال كبير يتعلق بسبب مغامرة هذه الحمامة بالدخول إلى مطبخي، متخلّية عن حذرها، وهي التي لم تكن تفعل ذلك سابقا!
إنه الجوع والبحث عن الطعام في زمن الحرب!
الحمام في دمشق بات دليل البشر لقراءة الأوضاع السياسية هنا أكثر من نشرات الأخبار التي لم يعد يتوقف أمامها السوريون إلا لماما، فحين يحلّق الحمام في السماء يعرف البشر أن الطائرات عادت إلى مطاراتها فيتنفسون الصعداء، وحين يغيب الحمام عن سماء دمشق يدركون أنها تتربص بهم فيبقون في البيوت.
هذا التحوّل الذي طرأ على عادات الحمام في الشام، يمكن قياسه على البشر هنا أيضا، فثمة تحوّلات وتغيرات لا تقرؤها وسائل الإعلام: ثمّة فرح مختلس بين كم الأحزان الكبير، و قصص تحكى الانتظار الطويل أمام أفران الخبز المترافقة مع خوف دفين من استهداف الطائرات لهذه الطوابير بسبب قيام النظام باستهداف الأفران أكثر من مرة، وثمة نشطاء ( لكل منهم حكاية) يهرّبون الأدوية للمحتاجين والشعارات الممنوعة واللافتات لرميها قريبا من أفرع الأمن دون خوف، وثمة علبة حليب تتقاذفها الأيدي من مكان إلى مكان لتصل إلى طفل يحتاجها في طرف المدينة لأن النظام قرر معاقبة أهل المنطقة كلها وفرض حصارا خانقا عليهم، ثمّة هياج وخوف وبكاء مع كل قذيفة تسقط على حي مأهول بالسكان أو بعد تفجير يحصل في منطقة سكنية، إذ رغم ذلك يعبر الناس بسرعة برزخ الموت نحو الحياة وكأنه لم يمرّ من قربهم للتو! ساخرين منه على طريقتهم (وشخصيا سقطت القذائف أكثر من مرة بالقرب مني ومن منزلي).
ثمة حزن كبير يطبع وجوه الناس بسبب الثمن الكبير الذي دفع ثمنا لهذه المرأة اللعوب ( الحرية)، إلا أنه خلف هذا الحزن ثمة أمل كبير ونضال يومي دؤوب لا يتوقف: نشطاء يتحركون سرا وبعيدا عن أعين الأمن يحملون الشعارات المناهضة للنظام بيد وعلبة الحليب بيد، يبدؤون يومهم في أحد المدارس التي ضمت الأطفال اللاجئين لمعرفة احتياجاتهم وتقديم دعم نفسي لهم أو بالذهاب إلى قصر العدل لمحاولة معرفة مصير أصدقائهم في السجون، وينهونه في مظاهرة سريعة في أحد أسواق دمشق أو نقاش حاد وصاخب حول قضايا الساعة الراهنة، بدءا من السلاح الكيماوي وليس انتهاءا بمتى يسقط النظام؟
رغم أن الكثير من مواد العيش باتت تفقد في دمشق، إلا أن السوريين برعوا في اختيار البديل إما عبر العودة إلى أساليب بدائية لصناعتها أو عبر اختيار مواد أخرى تكون بديلا، مما يدل على نوى مقاومة مدنية لم تقتصر على مقارعة الاستبداد، بل تعدّتها إلى مقاومة صعوبة العيش واستيلاد الأمل من قلب اليأس عبر ابتداع وسائل جديدة تعينهم على العيش.
هذه المقاومة التي تعكس صمود الناس في سوريا الداخل وتحولاتهم وتكيفهم مع الجنون الحاصل حولهم، هو ما نحاول أن نرصده في "سيريا أنتولد – حكاية ما انحكت" لنقدم صوت الداخل في إبراز ما تهمله وسائل الإعلام، في تقديم رأي السوريين وجدلهم وصراخهم وخوفهم ويأسهم وأملهم كما هي عارية بلا رتوش.
نحاول من الداخل: من دمشق وكل مدينة سورية أن نقدم صوت السوري الصارخ ضد الحرب والظلم والاستبداد طلبا للحرية، والواصل حدّ اليأس من كذب العالم الخارجي وتفرجه اليومي على جوع أطفاله في شاشات التلفاز، ولكنه المتفائل بالحرية رغم كلّ شيء.
"سيريا أنتولد – حكاية ما انحكت" ترصد البشر/ الحمام السوري في آنيته ولحظته الكامنة بين الموت والحياة، وصراخه بوجه العالم: يسقط النظام، تسقط المعارضة، يسقط مجلس الأمن، يسقط كل شيء..
هذه الصرخة البريئة، الغاضبة، هي ما نحاول أن نلتقطها ونرويها في حكاية سورية طويلة.