حين خرج السوريون ضد الاستبداد أرادوا أن يسقطوا الاستبداد ويبقوا الدولة، إلا أنهم اصطدموا بنظام شديد التمركز حول السلطة لدرجة التماهي بين الدولة و النظام، بحيث بات إسقاط النظام متعثرا دون إسقاط الدولة التي لا يود الناشطون إسقاطها، أو ترك مؤسساتها لميليشات صاعدة تسعى للاستثمار في الدم السوري المراق، مما جعل رحيل النظام في عدد كبير من المناطق السورية يتحوّل إلى رحيل للدولة ومؤسساتها، إذ توقفت أجهزة الدولة عن العمل أو استولت عليها "داعش" التي تسعى لفرض بديل إسلاموي يرفضه السوريون، كما في الريف الحلبي أو مدينة الرقة التي فشلت فيها محاولات التيار المدني في الانتفاضة السورية استعادة الدولة بوجه " داعش"، مما عقد مهمة عمل الناشطين والمقاوميين السلميين.
إلا أنّه خلف هذه الرؤية القاتمة، ثمة بصيص ضوء يظهر في شدة الظلمة. فكما كانت درعا مهد الانتفاضة وشراراتها الأولى، فإنها تقدّم اليوم تجربة فريدة من نوعها في استعادة الدولة من براثن النظام من جهة، ومنع وقوعها في يد الفراغ أو الميليشيات من جهة ثانية، من خلال تجربة " الهيئة العامة للدفاع المدني في درعا" التي مضى على تأسيسها ( شباط/ 2013) سبعة أشهر، بعد أن سبقتها أربعة أشهر من التخطيط والعمل الشاق لفريق عمل لم يتجاوز اثنا عشر ناشطا وناشطة، لتنمو الفكرة و يتحول الحلم إلى واقع في ولادة واحدة من أهم المؤسسات السورية الحديثة، الأمر الذي دفعنا في "سيريا أنتولد Syria untold " للبحث عن الحكاية من بدايتها حتى نهايتها، من خلال التواصل مع أحد مؤسسيها الناشط المدني الدكتور "زيدون الزعبي" الذي روى لنا في حوار خاص حكاية جهد طويل تكلل بدموع فرح يذرفها زيدون كلما شاهد ما تحققه الهيئة على أرض الواقع.
براءة اختراع من دوما، و عمل يتجاوز "الأصل المؤسس" في درعا:
البداية بدأت من مدينة دوما في ريف دمشق، حين اطلع "زيدون" ورفاقه من الشباب المدني، أثناء نشاطهم وتواصلهم مع الناشطين هناك على تجربة "الهيئة العامة للدفاع المدني في دوما"، مما دفعهم للتفكير بإطلاق مؤسسة مثلها في درعا، خاصة بعد أن " رحل النظام عن درعا وتوقفت المؤسسات عن العمل، إذ بدأت تتكشف مشاكل النظافة و الكهرباء والمياه والصرف الصحي، إذ رأينا أن أجهزة الدولة بدأت تنهار. وليس من مصلحة أحد أن تنهار، لأنها تقدّم خدمات للناس في نهاية المطاف بغض النظر عن النظام، ومن جهة أخرى لم يعد العمل الفردي وعمل الناشطين وحده كافيا، إذ لا بد من العمل بشكل مؤسساتي للتمكن من تغطية هذا النقص، وهنا بدأنا نفكر بنقل تجربة دوما، وقلنا لأنفسنا إذا كانت براءة الاختراع لدوما، فإننا يجب أن نتجاوز دوما في التأسيس والتجهيز والتنظيم". كما يقول زيدون.
وهنا بدأ الشباب بوضع خطة عمل على الورق، تشبه أي دراسة تعد لمشروع ما، أي أن تكون تراعي متطلبات الواقع بشكل علمي ودقيق، حيث تم "وضع أهداف ورؤية كما تضع لأي مؤسسة احترافية خطة عمل وجدوى اقتصادية وما شابه. وبدأنا العمل على هذا الأساس. كنا في دمشق حوالي 12 شخص مطلوب منهم تقديم الدعم الاستشاري والدعم والعلاقات العامة. وفي درعا عليهم التنفيذ على الأرض".
الفكرة التي بدأت حلما تحولت الآن إلى واحدة من أهم المؤسسات في سوريا، حيث تمكنت من القيام بكافة الأعباء التي كانت تقوم بها مؤسسات الدولة بدءا من تنظيف الشوارع التي تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة، إلى تأمين الكهرباء والماء وإصلاح أعطالهما للمواطنين، إضافة إلى توسيع عمل المشفى الميداني الذي كان سابقا مجرد مشفى صغير ليصبح الآن مشفى متكامل اسمه "الهيئة العامة لمشفى عيسى عجاج" يضم غرفة عناية مشددة و17 طبيب مقيم وحوالي 11 غرفة، إضافة على القيام بعمليات الردم والترحيل وغيرها من المضاعفات التي تحصل نتيجة المعارك الدائرة هناك، إذ تمكنت الهيئة خلال سبعة أشهر من فرض نفسها إلى درجة أن مدير الكهرباء في المدينة أصبح يتصل بنا ويطلب منا إصلاح الأعطال، ونحن نقوم بذلك لأننا نفرق بين النظام والدولة".
وفي مجال الإغاثة التي تعمل بها الهيئة بصفة وسيط فقط، ابتكروا خطة تقوم على تقديم الدعم مقابل العمل، " بمعنى نسأل أي شخص يحتاج معونة، ماذا تستطيع أن تعمل؟ فإذا كان يعمل في مجال تمديد الكهرباء نؤمن له عملا مقابل 12000 ليرة سورية، بحيث يصبح يعمل مما يقيه شر الحاجة". وهكذا أصبحت الهيئة تضم اليوم حوالي مئة وخمسين موظف في كافة المجالات.
المعدات والآلات التي يعمل بها الفريق، تم العثور عليها وفق مصدرين: الأول هو التبرعات التي تمكنت الهيئة من الحصول عليها، وهذا يشمل المواد القليلة الثمن، في حين أن المواد والآليات الغالية كسيارات النظافة والكهرباء فغطاها المصدر الثاني "حين رحل النظام عن درعا ترك المؤسسات كما هي بآلياتها، إضافة إلى أن عدد من عمال البلديات والمؤسسات انشقوا بآلياتهم، وهؤلاء انضموا للمعارضة. ونحن هنا جئنا للمعارضة المسلحة وقلنا لهم: نحن نريد هذه الآليات لتيسير شؤون الناس، وفعلا تم الأمر بيننا وبينهم على هذا الأساس. فهذه الآليات هي ملك الدولة وليس النظام، و نعد الآن قيودا نظامية بكل هذه الآليات لإعادة تسليمها للدولة بعد سقوط النظام، بدءا من الكرسي إلى السيارة إلى جهاز الإيكو".
علاقة موضوعية مع الفصائل المسلحة:
وطالما أن العلاقة تمت مع الفصائل المسلحة، فلا بد من معرفة طبيعة العلاقة التي تجمع بين الطرفين، وهي علاقة يصفها زيدون " لا إيجابية ولا سلبية، إنها موضوعية. لأننا نتحاشى أي اصطدام معهم. نحن نعمل في مجال سيطرتهم، ونحن هيئة مدنية ولسنا حزبا سياسيا، لسنا علمانيين ولا إسلاميين، وهذا يبدو واضحا من صفحتنا التي تخلو من أي شعار، لأننا نتجنب التوظيف السياسي. فنحن هنا لتأمين الدعم المدني لكافة مستحقيه بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الإثني السياسي. ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك مشاكل، فقد حدثت مرة مشكلة مع أحد أفراد جبهة النصرة التي احتجت على " علمانية" أحد أفراد الفريق. ولكن الحجة كانت مطية للسيطرة على عمل الهيئة لبناء حاضنة شعبية، ولكن الأمر انحل لمصلحتنا لسببين: أولا عدم توفر حاضنة شعبية للتطرف في درعا، وثانيا: شغل الهيئة والرصيد الشعبي الذي تركته بين الناس" حيث كان تفاعل الناس إيجابيا جدا، إلى درجة أنه " حين بدأنا أول حملة تنظيف في درعا بدأت الناس من تلقاء نفسها تنظف معنا، وهذا برأيي يعود إلى أن عملنا كان ميدانيا ومدنيا بحتا ويصب في خدمة الناس، ولأن شعاراتنا لم تزعج أحدا. فنحن كنّا نوّزع شعارات تجذب الجميع ولا تفرق، مثل "سوريا لكل السوريين".
https://www.youtube.com/watch?v=kJzcYHRVF3o
سر النجاح!
ويعود سبب النجاح الذي تمكنت الهيئة من تحقيقه خلال هذه المدة القصيرة إلى التنظيم والإدارة الجيدة التي تأسس عليها المشروع، فنسبة المتطوعين في المشروع لا تزيد عن خمسة بالمئة، و" أغلبها خارج سوريا، وهي تكاد تشكل العلاقات العامة لمشروع الهيئة" والباقي هم موظفون برواتب.
لا شك أن مؤسسة بهذا الحجم، تطرح أسئلة كثيرة حول كيفية تأمين التمويل والدعم، الذي لا يتردد "زيدون" في الكشف عنهم، إيمانا منهم بالشفافية، فهم "المبادرة السورية من أجل سوريا الجديدة، الأصفري، المنبر الديموقراطي السوري ، البيت السوري للإغاثة والتنيمة".
"زيدون" الذي رافق عمل الهيئة خطوة خطوة يذرف دمع الفرح كلما دخل إلى صفحة الموقع وشاهد حجم الأعمال التي تنجزها الهيئة، حيث العمال يذهبون لإصلاح الكهرباء وآخرون لتنظيف المدينة وترحيل القمامة، إذ لا يكاد يصدق أن تلك الفكرة التي كانت بمثابة حلم قد أضحت واقعا يقلل من قتامة الموت الذي يخيّم على حياة السوريين.
مصاعب ونظام بالمرصاد!
إلا أنّ فرحة "زيدون" ورفاقه لا تكتمل، لأنّ النظام لهم بالمرصاد، فكلّما بنوا حجرا يقوم النظام بهدمها، ليتحولوا إلى سيزيف الذي لا يكاد يصل قمة الجبل قد تتدحرج حجره، إذ يتساءل زيدون: " لما يستهدفنا هذا النظام؟ لا يوجد أحد بيننا يرفع حجر واحد بوجه النظام وعملنا مدني. آخر مرة استشهد عامل نظافة. هذا العامل يأخذ بالشهر 12 الف وهذا المبلغ لا يكاد يسد ثمن الخبز في سوريا الآن، فلماذا يقتل؟".
يتابع "زيدون" موّجها كلامه لرجال النظام: " قصفتم مبنى الهيئة ثلاث مرات وقمنا بترميمه ثلاث مرات، ولا أحد يعرف كم تكلفنا هذه الآلية التي تقصف؟ وكم نعمل كي نتمكن من تأمين البنرين لها؟ فلماذا؟ ونحن لسنا جهة نزاع مسلح؟ ولسنا جهة معارضة. بل نحن جهة مدنية. نحن فقط نحافظ على مؤسسات الدولة في المناطق التي تنسحبون منها؟".
إلا أن زيدون يدرك في نهاية المطاف أنّ كلامه لن يصل مسامع النظام الذي يعمل على تحويل الحياة في المناطق التي تخرج عن سيطرته إلى جحيم، في حين أن "مقاومتنا تتمثل بأن نحافظ على الدولة كمؤسسة. ونريد أن نسقط النظام كأفراد لهم توجهاتهم، وليس كمؤسسة تعمل في الشأن المدني".
https://www.youtube.com/watch?v=odIPgTCLurg
تشكو الهيئة من قلة الدعم الذي تحصل عليه، قياسا بما يصرف على العمل العسكري، فـ"الجهات المدنية هي الأقل حصولا على الدعم، وهذا مؤلم جدا جدا. لأن ما تكلفه معركة واحدة يكيفنا ثلاثة أشهر لدعم الناس في معركة الصمود. ناهيك عن كون هذه المعركة ستكلف الكثير من الخسائر المادية عدا عن خسائر الأرواح. أي بنفس هذا المبلغ نعمر ونخدم المناطق التي يقصفها النظام لمدة ثلاثة أشهر".
وهنا يطالب زيدون "بتقديم عمل للناس بدلا من تقديم سلل غذائية لهم، لأن الناس تشعر بكرامة أكثر حين تحصل على مال مقابل عملها، والناس هؤلاء يعمرون البلد، فدعونا نعلّمهم شيئا ليعملوا، لأن تركهم هكذا دون مصادر دخل سيوّلد مشاكل اقتصادية واجتماعية كثيرة فيما بعد".
إننا محكومون بالأمل!
ورغم هذه المصاعب، يصمّم الناشطون المدنيون على إكمال عملهم وسط ظروف سيئة جدا، فـ "نحن متروكون لجهود ناس عم تطلع الدموع من عيونها، لتأمين مصادر تمويل هذه الهيئة ومع ذلك صامدون ومستمرون".
تجربة الهيئة أصبحت مثار جدل في كامل سوريا، حيث تواصلت معهم محافظات أخرى لمحاولة نقل التجربة، إلا أن أغلبها باء بالفشل بسبب دخول الأجندة السياسية على الخط ومحاولة توظيف العمل المدني وتجييره لصالح السياسي، لتبقى تجربة "درعا" التي ارتقت بتجربة دوما، تمثل نضال سيزيف السوري في صراعه الطويل ضد الاستبداد لبناء دولة الحرية ومؤسساتها.