للفن دور فاعل في الانتفاضة، فإن لم يكن دوره مباشرا، فهو دور تخليدي/ توثيقي/ تأريخي لكتابة تاريخ الانتفاضة الذي يسعى النظام لمحوّه تمهيدا لكتابة التاريخ الخاص به، ولهذا لم يتوقف النظام عن استهداف الإعلاميين والمثقفين بل تعداه إلى كلّ حي وجماد يمكن أن يكون شاهدا على آلة قتله وجرائمه، بدءا من الغرافيتي التي يرسمها الناشطون على الجدران وليس انتهاءا بالجداريات والرسوم والكاريكاتيرات والعبارات التي يخطها "الرجل البخاخ" والناشطون على جدران مدنهم بهدف كسر الفضاء المقدس للدكتاتورية.
وأمام هذا الاستهداف المباشر للفن، فكر الناشط والفنان "رام حسن" بالتعاون مع مجموعة من الناشطين ومجموعة "الشعب السوري عارف طريقه" بتحويل جدران المدن الثائرة ضد النظام إلى جداريات لتبقى شاهدا على جرائمه، إذ يقول "رام" لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold" أن " الغوطة من الأماكن الأولى التي ثارت، وكنت أحبّ أن تتحول جدرانها إلى جداريات تعبّر عن الثورة و الصمود من جهة، وتزّين الجدران التي كلها دم وقصف من جهة أخرى".
وقع الاقتراح على أن تكون مدينة دوما القريبة من دمشق أوّل مكان لاستضافة غرافيتي بهذا الحجم، نظرا لمكانتها الخاصة في أذهان السوريين، على اعتبار أنها من أوائل المدن الثائرة. إلا أن الوضع الصعب في مدينة دوما نتيجة الحصار، وانشغال الناس والناشطين بتأمين شؤون حياتهم الصعبة أعاق الأمر، مما دفع رام لعرض " الفكرة على شباب الحراك السلمي في مدينة "يلدا" في ريف دمشق، فأعجبوا بالفكرة، إلا أن ثمة عائق تجلى بعدم وجود أموال تغطي حق البخاخات والألوان، فتمّ تأمينها عن طريق التبرعات، لتبدأ رحلة البحث في المدينة عن الحائط الذي سنقيم عليه أول جدارية".
رحلة البحث لم تكن سهلة كما تخيّل الناشطون، لأن كل الجدران مدمرة بفعل القصف، إذ لم يتمكنوا من العثور على جدار يتلاءم مع جداريتهم التي كانوا يريدونها بارتفاع خمسة أمتار وعرض مترين، مما اضطرهم لأن يجعلوها أربعة أمتار، حيث شارك في إنجاز الجدارية ورسمها خمسة ناشطون خلال عشرة أيام من العمل المتواصل في تفريغ الأوراق والكرتون ومن ثم رسمها على الجدار المخصص لها بعد طلائه باللون الأبيض، في ظل ظروف صعبة وقاسية.
اللوحة تعبر عن حال الحصار الذي يعيشه أهل المدينة من خلال طائرة ترمي قذائفها على المناطق الآمنة، بمواجهة طفل يرفع طائرته الورقية، لنبدو أمام تضاد بين طائرة طفولة تبحث عن الفرح وطائرة ترسل الموت، ككناية عن التضاد بين مشروع الاستبداد الذي تمثله الطائرة ومشروع الحرية التي يمثلها الطفل المعبّر عن انتفاضة السوريين وأملهم بنهاية الاستبداد.
رغم وعوة العمل وصعوبته يصر الناشطون اليوم على إكمال نشاطهم في رسم الجداريات في مدينة يلدا التي يقول عنها الناشط أنها من "أهم المدن الصامدة، و شباب الحراك السلمي فيها، من أنشط الشباب على الأرض".
المدينة اليوم مهددة بفعل الحصار المفروض عليها وسعي النظام لدخولها في إطار سعيه لاسترداد مدن ريف دمشق من أيدي المعارضة المسلحة، إلا أن هذا الأمر لم يمنع الناشطون من القول "رح نكفي بالغرافيتي، و عاشت سوريا حرة أبية".
الجدارية هذه تأتي كما يقول الناشطون "في إطار مشروع مشترك و مستمر لإيصال حالة الصمود و المضي على خط و نهج الثورة السورية و إيصال رسالة أننا محاصرين إلى كل الكتائب العاملة في الغوطة الشرقية والقلمون لكي يبادروا لفك الحصار المفروض علينا".
رغم كل الحصار واليأس والعسكرة يصر الناشطون على إكمال مشروعهم، حالمين بتحويل كل الجدران المهدمة إلى لوحات تضبط الاستبداد بالجرم المشهود، وتوّلد من قلب هذا الدمار "غرافيتي" أمل وجمال، آملين بأن يتمكنوا من تنفيذ الفكرة في كل المناطق المهدمة في سوريا من جنوبها إلى شمالها، ومن شرقها إلى غربها، فهل ينجحون؟
إنه سؤال التحدي، الذي يصمم السوريون على أن تجيب أفعالهم عنه، لأن الخيار البديل يعني الموت، وهم قرروا أن يعيشوا.