أمام الاحتفاء البالغ من قبل المعارضة اليوم بالهجوم على "دولة العراق والشام الإسلامية" المعروفة باسم "داعش" ومحاصرة مقراتها من شمال حلب حتى مدينة الرقة مرورا بطردها من الكثير من الأماكن التي سيطرت عليها، يبقى السؤال الذي لم يسأل حتى اليوم: كيف تمكنت تلك الحركة من اختراق تنظيمات المعارضة، وفعل ما فعلت من عنف ودمار وتشويه لسمعة الانتفاضة مما جعل الناس "تترحم" على عنف النظام أو تقارنها به على الأقل؟ ماهي الظروف التي مهدت الأرضية لاستيطانها قلب الانتفاضة ومحاولة تدميرها من الداخل محققة أجندة النظام؟ وهل هي من صنع النظام وحلفائه حقا أم ماذا؟
أسئلة كثيرة رأينا في "سيريا أنتولد Syria untold" ضرورة البحث فيها ومحاولة الإجابة عنها عبر رصد محطات دخول الإسلامويين والتنظيمات الإرهابية بكافة أشكالهم إلى الانتفاضة ( كنّا توقفنا سابقا حول كيفية دخولهم التنسيقيات)، لكي يكون ما يحصل اليوم ضد "داعش" والذي يصفه البعض بأنه "ثورة ثانية" أو تصحيح لمسار الثورة خطوة في الاتجاه الصحيح، أي معرفة الأسباب الكامنة وراء حصول ما حصل، وكيف حصل؟ كي لا يصار إلى تكراره خاصة أن السوريين يدفعون دمهم على مذبح الحرية، وباتت سوريا اليوم على حدود مخاطر التقسيم والتفكيك والأفغنة والحرب الطويلة الأمد.
كانت الرقة أول مدينة سورية خرجت منها قوات النظام بشكل كامل في آذار 2013، حيث عاشت شهورا من الفرح ورحيل الدكتاتورية تجلّت في تحويل المدينة من قبل ناشطيها إلى "أيقونة الثورة" من خلال النشاطات والفعاليات التي رصدنا قسم كبير منها في "سيريا أنتولد"، حيث أراد الناشطون حينها أن تكون مدينتهم نموذجا لسوريا المستقبل، إلا أنه فجأة تدهور كلّ شيء: انسحبت جبهة النصرة ودخلت "داعش" وبدأت تلاحق الناشطين المدنيين والسلميين والإعلاميين الذين غادر القسم الأكبر منهم المدينة/ الحلم بعد أن تعرض زملائهم للتعذيب والسجن والاختفاء سواء في الرقة أو غيرها، لتتحول الرقة من نموذج جيد لبناء الدولة إلى نموذج أسوأ من النظام ذاته ( أليس هذا ما يريده النظام؟ أن تدمر المعارضة ذاتها؟)، ليبقى السؤال: كيف حدث ما حدث؟ ولم لم يتمكن الناشطون وقوى المعارضة المسلحة المعتدلة ( الجيش الحر مثلا) من إيقاف "داعش" في اللحظة المناسبة؟ ولم هربوا بدل المواجهة، وهم الذين واجهوا قوات النظام واستبداده في أشد لحظات بطشه؟ هل كانت داعش أشد توحشا وعنفا من النظام أم ماذا؟
سقطت الرقة بتاريخ 4/3/ 2013 بيد المعارضة بعد معارك شارك بها بشكل رئيسي " كتائب أحرار الشام" بمساندة بسيطة من "جبهة النصرة التي سارعت إلى احتلال مبنى المحافظة واتخاذه كمقر رسمي لها منذ اليوم الثاني للتحرير" كما يقول لنا أحد الناشطين. حينها كانت المعارضة المسلحة مشغولة باستكمال معارك "التحرير" على حدود المحافظة، ولم يبقى في المدينة أحد من المسلحين مما أحدث فراغا هائلا في أجهزة الدولة ومؤسساتها خاصة على صعيد الخدمات، فعمد الناشطون إلى ملء الفراغ حيث تشكلت مجموعة من التجمعات الثورية كان منها "حقنا" و "تجمع شباب الرقة الحر" الذي كان لنا وقفات طويلة مع نشاطاته في تلك الفترة، والتي أخذت على عاتقها مهمة تنظيف المدينة وإعادة تأهيلها لتكون نموذجا لسوريا الحرّة.
https://www.youtube.com/watch?v=tmuDmJhkQYM
بينما كان الناشطون المدنيون يقومون بذلك والأمل يملأ محيّاهم لبناء وطن حلموا به، كان في الجهة الأخرى من يعمل على أجندته الخاصة، حيث ظهر أمرين: الأول "جبهة النصرة" التي استولت على مبنى المحافظة تاركة ساحات القتال إلا نادرا، متبعة سياسة ناعمة تقوم على تخديم المناطق وتبديل أئمة الجوامع والتغلغل بين الناس لكسب ود المواطنين. والثاني: هو وجود مجلسين محليين في المدينة أحدهما منتخب من قبل نخبة معينة وليس من الناشطين، بقيادة "سعد فهد الشويش". والثاني مفروض من الائتلاف الوطني برئاسة "عبدلله الخليل"، حيث" أعلن عنه في مدينة أورفا التركية بتاريخ 6/12/2013، وأحدث بيان تشكيل المجلس ضجة كبيرة على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث تم استنكار طريقة تشكيله دون الرجوع إلى الناشطين الميدانيين، وضبابيته، حيث أن 90% من أعضائه يعملون في السر".
برزت الخلافات بين الاثنين على طبيعة عمل المجلس الذي يصر المنتخبون على أنه خدمي في حين يريد جماعة الائتلاف جعله سياسيا، مع وجود أجندة غريبة تعمل على الهيمنة والسيطرة وتكفّر بعض مكونات الشعب السوري، أي أنه يتبع " الائتلاف بشكل أو بآخر, له نفس توجهات الإئتلاف الإسلاموية القومية, وكان يحارب ضد الأكراد وخاصة في منطقة تل أبيض" كما يقول الناشط لموقعنا.
جرت محاولات كثيرة لتوحيد المجلسين إلا أنها باءت بالفشل وبعد كل اجتماع كان يجري التأجيل. في هذا الوقت كانت جبهة النصرة تهمين أكثر وأكثر على المقرات والمجتمع وكذلك الأمر بالنسبة للناشطين الذين كانوا "يحاولون إبعاد كل تلك المشاكل والخلافات السياسية والمالية عنهم"، عاملين على توسيع نطاق نشاطهم وعملهم، و أصبحوا في حزيران 2013 حوالي 32 تجمعا شبابيا مدنيا، تعنى "بالأمور الإنسانية الخدمية، والثقافة ونشر الوعي الديمقراطي وحقوق الإنسان".
هذا التضخم في عدد المجموعات الشبابية دفع الشباب لأن "يجدوا وسيلة للتنسيق بين جهودهم, فكان تجمّع "قوى الثورة" لحماية أهدافها هو نتيجة هذه المساعي".
https://www.youtube.com/watch?v=74Svg_vUBaA
وهنا يرى الناشط أنه حصل الشرخ الأوّل في العمل الشبابي المدني، "لقد خلقنا لأنفسنا مركزية وبيروقراطية لم نكن بحاجة لها أبداً. حركتنا كانت نشطة وخفيفة ولا تحدث ضجيجاً إعلامياً، ولكن بعد تشكيل تلك المركزية فتر الحماس وأصبح العمل بطيئا لأن معظم الشباب الناشطين والذين يعملون بجد أصبحوا في تلك المركزية "، مما أفقد العمل المدني سلطته، إذ كان بمثابة "العين الحارسة للمدينة, فلم يكن هنالك فصيل عسكري يجرؤ على الاعتداء إلا وتظهر في وجهه مظاهرتين ضخمتين أو اعتصام حتى تستعاد الحقوق لأصحابها"، كما حصل أكثر من مرة حين اعتقل أحد الناشطين وأخذ إلى المحكمة العسكرية، من قبل "فصائل أحفاد الرسول"، فتجمع الناشطون أمام المحكمة واقتحموها، هاتفين بفك أسره، مما أوجد خلافا "بين أحفاد الرسول من جهة وكتائب الفاروق أدى لإطلاق سراح الناشط المعتقل مع بوسة شوارب"، ومرة تظاهر الناشطون أمام مقر جبهة النصرة للإفراج عن أربعة شباب اعتقلوا بعد مظاهرة أمامها.
وقتذاك لم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب من الناشطين المدنيين لأن "هنالك روح ثورية حاضرة في شوارع الرقة كانت دائماً تحول دون ذلك" أي أن المجتمع كان يحضنهم ويحميهم وهو ما سيفقدوه لاحقا، رغم محاولات جهات مختلفة ( إسلامية معتدلة – متشددة – جيش حر ) الهيمنة على العمل المدني وسرقة مكتسباته.
اللحظة الحاسمة: الافتراق
حين أعلن قائد "دولة العراق والشام الإسلامية" أبو بكر البغدادي بتاريخ 9/4/2013 توّحد تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" التي انسحبت إلى مدينة "الطبقة" بعد تسليم مقرها لداعش، بدأ الصراع بينها وبين القوى المدنية التي كانت دخلت عمليا في طور مركزيتها وضعف صلتها بالشارع بفعل غياب التمويل، مما عطل عملها نسبيا وسط شلل المجلسين المحليين ( المنتخب والمفروض من الائتلاف) الذين لم يكونا حلّا خلافاتهما، مما مهد الأرضية التي مكنت "داعش" من استغلال الأمر جيدا للبطش بالناس وتطبيق سياستها، خاصة أن فصائل "الجيش الحر" التي كانت في البداية ممسكة ببعض مفاصل الأمور في المدينة كانت مشغولة "على أكثر من جبهة , كجبهة الفرقة 17 على سبيل المثال، ولم يكن بمقدوره ( الجيش الحر) أن يدخل بجبهة جديدة مع داعش، ناهيك عن كونه ليس بذاك الجيش صاحب الأخلاق السامية. هو فقط بالمقارنة النسبية كان مصدر خير للناس ( كتائب الفاروق كانت تصنف حينها بأنها من الكتائب الجيدة , على الرغم من السرقات التي قامت بها )" كما يقول الناشط.
وسط هذا الفراغ في القوى المقاومة لداعش بدأت تنفيذ استراتيجيتها كأنها نظام دكتاتوري عبر حملات الاعتقال العشوائية ثم الافراج عنهم مع ظهور تعذيب هائل على أجسادهم في "رسالة واضحة بأن من يعارض وجودنا سوف يلقى نفس المصير, وبالفعل كانت نتائج المرحلة الأولى مبهرة، فأخذت التجمعات الشبابية المدنية بالانكماش نتيجة فقدانها لزخم الشارع الذي كان يمثل بنيتها الرئيسية وقوتها الأساس". لتخلو الساحة بالكامل تقريبا لداعش إلا من بعض النشاطات المحدودة كتلك التي قامت بها سعاد نوفل بوجه داعش التي بدأت في مرحلتها الثانية ملاحقة الناشطين ورؤساء المجالس المدنية المعروفين في المدينة ( عبدلله الخليل – فراس الحاج صالح – ابراهيم الغازي )، مما شكل صدمة كبيرة للمجتمع والناشطين.
في المرحلة الثالثة بدأت "داعش" تطبيق قوانينها بوصفها دولة من خلال فرض "ضرائب مالية على المحلات التجارية لقاء الحماية ومضايقات على الطريقة السعودية فيما يخص المرأة ( لباسها – حجابها ), التدخل بالمعاهد التعليمية الخاصة من أجل الفصل بين الذكور والإناث، مع فرض غرامة مالية لمن لا يلتزم بذلك في خطوة أولى، وإغلاق المعهد واعتقال القائمين عليه بتهمة الكفر والزندقة في مرحلة ثانية".
بعد أن اطمأنت داعش إلى قوة تحصيناتها دعت في مرحلة رابعة إلى اجتماع موسع مع الفعاليات المدنية المتبقية وشيوخ المدينة في قهوة Negative بتاريخ17/10/2013، حيث حضر حوالي 300 ناشط بالإضافة لممثلي داعش ، حيث برز في الاجتماع كل من "حازم الحسين" و"مهند حبايبنا" في توجيه أسئلة اتهامية محرجة جدا لداعش عن "جرائم قتل وسرقات في وضح النهار وأوضاع المدينة المزرية"
، ليفاجأ الناس باغتيال "حازم الحسين" الساعة 11 ليلا من نفس اليوم في "مكان مزدحم بالسكان, وبحسب شهادات العديد من الأشخاص أن رميه بالرصاص تم من قبل سيارة معروفة بخطف الناس( سيراتو بيضاء اللون نمرة حلب)، وبعد أربعة أيام تم اغتيال "مهند حبايبنا" في سيارته على طريق عام. وهذا كان بمثابة إعلان استسلام معظم شباب القوى المدنية, مما أدى إلى هروب العديد من الشباب نحو مدينة أورفا التركية، ليطلق عليهم لقب "الهاربين من الموت".
عن نتائج هذه التجربة يقول الناشط الذي كان شاهدا على أغلب مراحلها، مقيّما المرحلة بأكملها "ساهم خوفنا وتكتمنا على جرائم داعش بتزايد وقاحتها. كنّا ننسب الجرائم لعصابات أو مجهولين مع شبه يقيننا بأن داعش من يقف خلفها, مما جعل الناس ترتجف خوفاً أكثر فأكثر، إذ نحن من جابهنا الموت نرتجف من هؤلاء! فكيف أولئك الناس الطيبين؟ حتى الآن أخشى أن أكشف اسمي لكي لا أؤذي أحد من أقاربي وأهلي الذين ما زالوا يعيشون في المدينة. لقد فقد الناس ثقتهم بنا وبأنفسهم. كنا منذ زمن عند الاعتداء على أي شخص في المدينة نشاهد المظاهرات العارمة التي تطالب بحق المظلوم وتدفع الشر عنه. في المراحل الأخيرة لم نجد سوى عشرات الأشخاص التي وقفت لتدافع عن الكنيسة أو حتى للمطالبة بأحد المعتقلين في سجون داعش وغيرها. لا أدري لما عاد الخوف بهذه السرعة إلى قلوبنا ولكن هذا ما شاهدناه في عيوننا قبل الهروب".
اليوم بعد الهجوم على "داعش" يستعد الناشط ورفاقه للعودة إلى الرقة ليباشروا نشاطاتهم "مع الاستفادة بأقصى ما يمكن من الدرس السابق" حيث قطعوا وعداً على أنفسهم بأنهم لن يخرجوا من المدينة إلا للمقبرة، فهل ينجحون؟
التجربة المرّة تلك لازالت تنبت على ضفافها العديد من الأسئلة المؤرقة الباقية دون إجابات رغم الأمل الذي أطل مؤخرا، وعلى رأسها: دور جبهة النصرة المصنّفة إرهابية في طرد "داعش"، وهي التي وفرت لها سابقا الأرضية اللازمة لدخول الرقة! خاصة أن المراكز التي تطرد منها داعش اليوم تسلّم للنصرة! ناهيك عن دور الفصائل الإسلامية الأخرى ومدى قدرتها على التعايش مع الدولة المدنية وهي التي تعلن أنها تريد دولة إسلامية، وبعضها يكفّر مكوّنات من الشعب السوري، فكيف سيتعايش هؤلاء مع الناشطين المدنيين الذين قرروا العودة؟ هل ثمة معركة أخرى مؤجلة؟