أنس سلامة


28 كانون الثاني 2014

كثرٌّ هم الفلسطينيون الذين سمعوا عن المعاناة الفلسطينية دون أن يروها أو يختبروها، إذ شاءت أقدارهم أن يتابعوها من مخيمات الشتات التي آوتهم بانتظار عودتهم، فراقبوا من بعيد معاناة الداخل، إلا أنه  "في أحداث سوريا ارتبط مخزون المعاناة الفلسطينية بالواقع الذي أراه بعيني و بدأت أعمالي تتأثر بما يحيط بي فأحس أن روحي من ترسم ليست يداي".

هذا ما يقوله الفنان الفلسطيني "أنس سلامة" ( 1979، دمشق مخيم اليرموك) الذي درس الديكور والتصميم الداخلي في معهد vtc التابع للأونوروا و الرسم والنحت في مركز أدهم اسماعيل بالإضافة لدراسة الإعلام في جامعة دمشق، معتبرا أن الانتفاضة السورية التي شهد ملامحها أعطته بالواقع المعاش ما كان لا يعرفه عن واقع المعاناة الفلسطينية، فـ " أنا ابن الثورة الفلسطينية و أعلم معنى المعاناة منذ كنت طفلا، فتاريخنا الفلسطيني يحمل من المعاناة الكثير و لكني كنت أسمع عنه و لم أعيش واقع المعاناة" كما يقول لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".

الفنان الذي تنوعت أعماله بين الرسم التشكيلي ورسوم الأطفال و "المالتي ميديا و تصميم الأفكار و إخراجها لوسائل المالتي ميديا للأطفال" وجد نفسه مع بدء الربيع العربي ملتحما باللوحة التي بات يرسمها بسرعة وآنية، نظرا لارتباطها بالحدث الحاصل حولها، و كأنها في سباق مع الحدث لتوثقه "حاولت أن تكون اللوحة لها علاقة بالمعاناة اليومية للناس و نوع من التوثيق، و ذلك من خلال استخدام أساليب و ومواد متعددة للرسم"، حيث ابتكر الفنان "الرسم ببقايا القهوة فكانت لوحة القهوة هي لوحة يومية بعد كل غلاية قهوة أشربها. أرسم ببقاياها"، لينضج في النهاية مشروع "بقايا غلاية القهوة" الذي سيتطور ويتبلّور خطوة خطوة مع اندلاع الانتفاضة السورية، ليغدو تأريخا يوميا بالفن للحدث العربي/ السوري وفق ما يراه الفنان، لنجد بجانب كل لوحة تاريخ شرب قهوتها وبالتالي تاريخ رسمها.

بين الأبد والتعمق والهدوء والاختمار الذي تحتاجه اللوحة وبين والآن واللحظة التي يحتاجها الحدث وتضغط على الفنان ليكون له موقفه مما يجري تمزق ابن مخيم اليرموك فأوجد توليفته الخاصة من خلال لوحة تجمع "بين الكاريكاتور اللحظي أو الآني و اللوحة التشكيلية بعمق محتواها" كما يقول.

مع بدء الانتفاضة السورية أصبح الرسم بالنسبة للفنان نوعا من التماهي مع الموت، فاللوحة باتت ترسم على وقع القذائف، مما حدا به لأن يسابق الزمن، سائلا إياه أن يمنحه القليل من الوقت لينجز لوحته، إذ " كنت أرسم و أسمع صوت القذائف تئز فوق البيت. كل لوحة كانت بالنسبة لي احتمال لأن تكون آخر لوحة.  كنت آتساءل: هل أستطيع إنجازها إلى النهاية أم أنها ستكون اللوحة الأخيرة؟".

تزامن رسم اللوحة مع القذائف المنهمرة دفع الأخيرة لأن تسكن لوحة الفنان، حيث بقايا القهوة الصباحية باتت تجد طريقها إلى اللوحة لترسم "القذائف التي كانت تسقط خارج مرسمي وأصوات سيارات الإسعاف القادمة أثر مجزرة بشارع الجاعونة من جراء القصف" حيث تظهر السماء بمثابة حائط تخترقه القذائف، والسيف الدمشقي في ساحة الأمويين "صامدا" وسط ركام القذائف، والبيوت أشبه بقبور مثقّبة. ألا تشبه البيوت أثناء الحصار القبور؟

ولم تكن القذائف وحدها من استوطن لوحة الفنان بل هناك الشهداء الذين يشيّعون شهيدا وصوّر الشهداء التي غطت الجدران لكثرتها، كناية عن تكاثر الموت، وبقايا الدمار سواء على أرواح البشر أو البيوت، فللبيوت أرواحها المنهكة أيضا، كالبشر النازحين من منطقة التضامن القريبة من دمشق  بعد قصفها و"حالة الذعر والخوف على وجوههم".

مع اشتداد التضييق على مخيم اليرموك عمل الفنان مع أصدقائه على التحضير لملتقى "ولادة من الموت"، حيث "كنا نحاول من خلاله الدخول إلى مخيم اليرموك مع باقي نتاج الملتقى لنقوم بكسر الحصار، لكن للأسف تم في تلك الفترة إغلاق المخيم بشكل كامل مما أشعرنا بخيبة أمل كبيرة" دفعته لمغادرة البلاد.

لوحة الفنان اليوم بعد الخروج من أرض الانتفاضة باتت حزينة يغلب عليها اللونين الأبيض والأسود وكأنّ ألوان الفنان وريشته باتت غريبة بعيدا عن دمشق حيث ترك الفنان ألوانه فيها "مما جعل معظم لوحاتي باهتة بدون لون" وهذا ما نرصده في الوجوه الغائمة لرسوم تلك الفترة، حيث الأنوثة تذوي بلا ملامح واضحة، وكأن الفنّ خارج دمشق يغدو لا لون له.

لم يشهد "أنس سلامة" تراجيديا فلسطينه التي انتمى لها منذ الولادة دون أن يراها، فامتلأت بها لوحاته الأولى، ليهديه القدر فلسطينا أخرى تذكّره بفردوسه المفقود، ليرسمه غلاية قهوة يشربها كل صباح لتكون سجنه وأمله أيضا.

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد