لم تسطع الفنانة التي عرفتها مسارح التظاهرات طيلة الفترة السلمية للانتفاضة في درعا وحمص والقابون وساحة عرنوس الشهيرة وسط دمشق "فدوى سليمان" أن تركن للصمت وهي التي ترى حلمها رهين "آلة إعلامية عملاقة .. قادرة على صناعة الحرب في أي مكان، تعلن عما تريد وتخفي ما تريد لتساهم في تدمير شعب بسلميته كان قادراً على إسقاط النظام، وبالتالي كان سيّغير معادلات كثيرة وسياسات كثيرة في العالم" فأبت إلا أن تصرخ، إلا أن صرختها اليوم مختلفة عن تلك الصرخة التي صرختها في التظاهرات توقا للحرية، إنها صرخة تقول "أن الحرب صناعة ومن السهل إشعال فتيلها في أيّ مكان، وأن الشعوب دائماً تدفع ضريبتها باستخدام السياسيين لهم"
، وذلك عبر" أصوات الممثلين وأجسادهم: الممثلين الستة الذين اخترتهم متقصدة من جنسيات مختلفة (فيتنام- إيطاليا- روسيا- تركيا- كونغو- فرنسا) وأنا من سوريا، بوجوهنا ولهجاتنا المختلفة عندما نتكلم بالفرنسية وجوهنا التي تتكلم وحدها عن الألم الإنساني الناجم عن الحروب .. وقد طلبت من الممثلين ترجمة جزء من القصائد إلى لغاتهم الأصلية مع الإبقاء على العربية وتم تدريبهم عليها بمزج هارموني أحياناً وبأسلوب الكانون أحياناً أخرى". فما هي الحكاية؟
إنها "حكاية سوريا وهي حكاية كل الشعوب التي عانت من الحروب"، كما تقول الفنانة التي مذ أجبرت على اللجوء إلى فرنسا جرّاء ملاحقة الأمن لها "كان هاجس متابعة الثورة التي خرج السوريين من أجلها وإيجاد الوسائل لنقل حقيقة ما يجري فيها إلى العالم يسكنني، تتزاحم في رأسك أفكار كثيرة وكثيرة.. تريد أن تقولها دفعة واحدة كصرخة"، جاءت على شكل عمل مسرحي ملحمي حمل عنوان "رسل الحب"، وقدّم على مسرح "بيت أوروبا والمشرق" بعرض تجريبي لم يكتمل بعد.
لم تكن الفنانة المغرّدة خارج السرب والتي ناضلت طويلا ضد الجنوح للسلاح حين كانت على رأس التظاهرات، تفكر بعرض مسرحي بل إقامة معرض للصور، يتضمن صورا تتلازم مع مقاطع شعرية لشعراء سوريين في الداخل والخارج، على أن تترجم لعدة لغات ومقاطع لشعراء فرنسيين.
ولكن حين "بدأت بجمع بعض الصور عن صفحات "عدسة شاب حمصي" و"حلبي" و"حوراني" و"دمشقي" و"تافه" و"ديري محترف"، وصور من المصور السويسري الشاب/"Gary Lobevich" ولوحة بيكاسو /غرينكا/ وصور مختلفة من حروب عالمية عن الأنترنت، وجمعت القصائد من شعراء سوريين: "تمام تلاوي" و"محمد ديبو" و "علاء الدين عبد المولى" و"هنادي زرقا"، ليرسلوا بعضاً من نصوصهم وكنت في نفس الوقت قد بدأت بكتابة مقاطعي الشعرية، وقد قام بترجمة النصوص المخرج المسرحي والكاتب والشاعر اللبناني المقيم في فرنسا "نبيل الأظن" ومدرس اللغة الفرنسية الذي يتكلم العربية "ليونيل دوناديو" متطوعين، واخترت قصيدة لـ"بول إيلوار" في ذكرى حرق مدينة /غرينكا الإسبانية بنيران القوات النازية المتحالفة مع الجنرال فرانسيسكو فرانكو عن ديوانه /كور ناتورل/ cours natyrel.عندما بدأت بجمع النصوص، و اختيار الصور المناسبة للقصائد وجدت نفسي أمام نص مسرحي يحكي حكاية الثورة السورية بلغة شعرية، منذ البداية السلمية، منذ لحظة الحلم الأولى حتى الوصول إلى مرحلة التدمير بالتالي الإحساس بالعجز والشلل والضياع والصدمة ورحلة اللجوء إلى المخيمات والدول والجوع والحصار لمن في الداخل وفي المخيمات" كما تقول صاحبة "العبور" لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
أثناء العمل بدأت تتزاحم في رأس الفنانة المشاهد التي خبرتها بتجربتها الشخصية من "شوارع مليئة بحناجر المنادين بالحرية وبيدهم أغصان الزيتون وورود القرنفل إلى صور أطفال درعا الذين عذبوا في السجون إلى فيديوهات سقوط أول شهيدين في درعا إلى صورة الدبابات تحاصر درعا ثم بانياس فدوما فبرزة فالقابون، إلى مشاهد القتل اليومي والدمار الشامل للمدن، إلى تحول الناس السلميين المدنيين إلى حمل السلاح، وانقلاب الثورة إلى مسلحة، ليأتي العرض في "سياق السفر عبر الأزمنة حيث الماضي موجود في الحاضر والحاضر هو استمرار للماضي" لذا بدأ العرض بمجموعة من الأشخاص من مختلف الجنسيات ترتدي الأبيض والأسود تبحث بالأبيال ( الأضواء اليدوية) عن شيء ما، ضائع مفقود حتى يعثروا على أقدام ثم نسمع صوتاً باللغة العربية يقول نصا لفدوى سليمان مستوحى من أسطورة الخلق:
كانت
تَرَّفُ على هَدأة الغمرِ
شُعاعاً من نور
عندما كانَ العماءُ يلفُنا جميعاً
لينتهي العرض بمقاطع شعرية لمحمد ديبو تؤكد على انتصار الحرية في نهاية المطاف، تقول:
نحن
القابضون على جمرنا
الهالكون وهم يضحكون، الفائزون وإن خسروا!
رغم كل الأسماء والنعوت
يعلم زوار الفجر مدى قوتنا حين ننهض من نومنا الطويل
ويعلم البصاصون أن نومنا ليس إلا تحايلا
وتدرك الخفافيش التي أحصت أحلامنا
أننا لا ننام إلا لننهض على أفولها.
بني العرض على أساس"أداء جسدي وصوتي وموسيقي ضمن إيقاع دقيق حتى الانتقال من لوحة إلى لوحة أو مشهد إلى مشهد آخر كان من ضمن إيقاع العرض ولا ينفصل عنه، تقوم به شخصيات لا تعرف نفسها أساساً من تكون عبر الدمج بين زمنين "في الزمن الحاضر الذي هو لا زمان ولا مكان ولا شخصيات ولا ذواكر،الزمن الماضي من خلال المغنية وزمن ما حصل في سوريا والذي يشبه أزمنة الممثلين أيضاً ويشبه ما حصل في بلدانهم وكما قلت سابقاً وكأننا في الزمن الحالي نبحث عن وجوهنا وعن الزمن الواجب أن نصنعه"، لنكون أمام "أرشفة الثورة السورية منذ أطفال درعا إلى انطلاقة الحلم إلى البدء بتحطيم هذا الحلم"، وذلك ضمن مناخ إنساني عام لا يفصل المأساة السورية عن مأساة الإنسانية المتفرجة على هذا الموت.
أكثر ما يحزّ في نفس الفنانة والقائمون على العرض أن هذا المشروع الذي يجري العمل عليه منذ سنتين "بالكتابة والترجمة وجمع الصور" والتدريب لم يجد تمويلا لائقا به "لأن العالم يعاني من أزمة اقتصادية ويقلص من دعمه لأمور كثيرة ومن بينها المشاريع الثقافية والمعرفية، لكنه لا يقلص دعمه للمشاريع الحربية"!، الأمر الذي اضطر القائمون عليه للعمل كمتطوعين لعرض "تصوراتهم الأولية عن العرض أمام الجمهور حتى تأتي جهة وتتبنى العرض أو أكثر من جهة تتعاون مع بعضها لدعمه، الدعم الذي تلقيناه هو صالة صغيرة لإقامة البروفات والعرض فيها، حتى الآن نقوم بالبحث عمن يتبنى هذا المشروع ، لم يكتمل العرض بعد و بالتعاون مع بيت أوروبا والمشرق، وآنيغرا والتعاون مع الممثلين الذين دفعهم حبهم للنص، وطريقة العمل عليه، ورغبتهم في المساهمة في عمل من أجل سوريا،ومازلنا نبحث عن الدعم".
"رسل الحب" محاولة لطرد الخيبة التي تشعر بها الفنانة " الخيبة من سقوط كل المعاني الإنسانية التي أشبعنا بها وحلمنا بها.. لكن العرض عكس الخيبة، .. هو مقاومة أيضاً للموت من أجل الحياة، من أجل ألا ننسى ولا يتم مسح ذواكرنا نحن أيضاً، ولتكن هذه الذاكرة الكلمة والصورة الضوء فلا شيء أبعد من حدود الكلمة".
الفنانة التي كانت من أوائل الحناجر التي صدحت بحرية شعبها رفضت الحرب دوما، لذا تحلم بأن "يرمي الجميع بسلاحه ويحتكم إلى صوت العقل والضمير، أحلم أن يجتمعوا على طاولة واحدة ويشربون الشاي ويأكلون الزعتر، وينهون هذا النزف اليومي لدمائنا التي لا يربح من سفكها إلا الآخر ولا يخسر إلا نحن. أحلم وكما سخر الشعب السوري من كل السياسيين والسياسات، أن أرى الاطراف المتنازعة في سوريا تسخر من نفسها وتقول: ما أغباني؟ الشاي والزعتر ينتظر الجميع فوق الطاولة ولا يحتاج المرء إلا للحظة شجاعة ليقول للآخر سامحني وتعال لنشرب معاً سيجارة ونتفاهم"، فهل يحصل أم أنه مجرد "حلم ليلة صيف"؟