"كي لا تضيع البوصلة" وتضيع الحقيقة.
لأنها ثورتهم وحلمهم.
ولأنها مستقبلا لازالوا يحلمون به، يواظب ناشطو "المركز السوري المستقل لإحصاء الاحتجاجات" والتظاهرات على عملهم يوما بيوم وجمعة بجمعة، رغم كل الدمار والقتل وتراجع النشاط السلمي، وكذلك الاهتمام به إعلاميا.
إنه العناد السوري، عناد المطالب بالحق والمدرك صوابية رؤيته بغض النظر عن الأعداد، فالكم لم يكن يوما نصيرا لحق، إذ دوما كانت الفكرة وحيدة، فكما ولد أول احتجاج سوري وحيدا ويتيما ليلحقه الجميع، يؤمن ناشطو المركز بأن "التوثيق" بالرقم أهمية قصوى، لأن الثورة علم وتخطيط في نهاية المطاف دون نفي أنها حلم بالضرورة أيضا.
مع أسئلة الإنتفاضة الأولى حيث كانت عيون الناس تترقب مايحدث في درعا وريفها، تحفظ كل مكان يخرج به مظاهرة هنا أو هناك، ولدت فكرة المركز، فلم تكن مناطق مثل: نوى , جاسم، اليادودة، طفس.. وغيرها من المناطق المحيطة في درعا معروفة لدى معظم السوريين إلا أنها سرعان ما أصبحت حديث الشارع اليومي، فكانت النقاشات تدور حول المتظاهرين وأعدادهم مرفقة مع إشاعات وروايات مختلفة للحدث الواحد، ليصبح السوريون مع توّسع الانتفاضة وتمددها أمام مشهد مضطرب، مزوّد بكميات هائلة من مقاطع اليوتيوب والصور, فكان لابد من مراكز إحصاء دقيقة تقدم تقاريرها الموثقة لكل الناس.
معظم الشبان والشابات المؤسسين للمركز لم يكونوا يملكون الخبرة الأكاديمية أو العملية، إذ بدأ الأمر "بتشكيل الفريق من الأعضاء الذين كانوا يحاولون الخروج بإحصائية لعدد المظاهرات أيام الجمع بشكل فردي ومبادرات فردية، ووقتها كان لدى أحد المؤسسين فكرة لتطوير العمل حيث كان يعمل وحيداً ويستقي معلوماته من الأعضاء ويضيفها إلى ملف إكسيل للتوثيق فلقبناه بالأب الروحي للمركز. وبعد أن تزايد عدد المظاهرات بشكل مضطرد كل أسبوع، تواصلنا مع بعض وارتأنيا أن نوحد الجهود وأن نعمل كفريق واحد تحت مسمى محدد " كما يقول أحد مؤسسي المركز لموقعنا "سيريا أنتولد syria untold".
تأسس المركز في العشرين من كانون الثاني عام 2012 , وبعد أن اكتسب المركز شهرة كبيرة مباشرة بعد الأسابيع الأولى من تأسيسه شعر الأعضاء بحقيقة وحجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم وضرورة الحفاظ على مصداقيتهم واستقلالهم الذي أشاروا له ضمن اسم المركز، حيث "اتخذنا قراراً بأن ننأى بأنفسنا عن التجاذبات والتحزبات التي كانت موجودة أو بصدد التشكّل على الساحة الثورية في تلك الفترة، رغم اختلاف إنتماءات أعضاء فريق المركز وتنوع مشاربهم الفكرية، وهو ما نعده أحد أعظم انجازاتنا أننا استطعنا المحافظة على وحدتنا في المراحل المختلفة من عمر الثورة ".
بعد شهر من تأسيس مركزهم كانت الصدمة باعتقال مؤسس المركز. إلا أن الأمر لم يثنهم عن متابعة عملهم، إذ "أحسسنا بنوع من الضياع في غيابه، لكن سرعان ما تجاوزنا الصدمة، وبدأنا بتطوير العمل على نفس الخطى والرؤيا التي وضعناها سوية. ومنها تصميم شعار للمركز وإنشاء صفحة على موقع الفيسبوك، بالإضافة إلى الإعتماد على الرسوم والتحاليل البيانية وملف باللغة الإنكليزية، ولاحقاً تحديد مواقع المظاهرات باستعمال الخرائط لدراسة تطوّر الحركة الإحتجاجية السوريّة، حيث تعرّفنا من خلالها على الجغرافيا السورية عن قرب، وانطبعت في ذاكرتنا مواقع البلدات والقرى السورية التي تظاهرت في جميع أنحاء سورية"، وهو الأمر الذي سيفاجئ مؤسس المركز بعد خروجه من المعتقل بعد أكثر من عام، "فكان سعيداً جداً لما حققناه، بقدر ما كنّا فخورين به ودائمي التفكير بما قد يقوله كلما اتخذنا خطوة جديدة ".
من الأعمال المميزة التي أصدرها الموقع: خرائط تفاعلية بالإستعانة بموقع غوغل، تظهر أماكن خروج المظاهرات، فاتحة المجال أمام متابعيها لإضافة معلوماتهم, بعد أن يوافق عليها مشرفو الموقع، لنكون أما شراكة واضحة بينهم وبين المواطن في كتابة تاريخ الحركة الاحتجاجية، ليكون الأخير شريكا في كتابة التاريخ وليس مجرد قارئ أو صانع له، حيث تعاملوا معهم على أنهم من أسرة العمل وبطريقة عفوية بعيدة عن الرسمية أو البروتوكول، وذلك دون أن تقتصر الشراكة على ذلك، إذ بالرغم من أهمية عملهم وجهودهم إلا أن هذا ما كان لينجح لولا العدد الكبير من النشطاء والشباب والتنسيقيات المتواجدة في المظاهرات والأحياء المختلفة في البلاد، والذين زوّدوهم بمعلومات حقيقية مرفقة بمقاطع فيديو وصور، بالإضافة لأعضاء صفحتهم الذين كانوا حافز للعمل والتقدم , دون أن يغفلوا عن نقدمهم حينما يخطؤون أو ينسوا مظاهرة ما.
لم يكتفي المركز بالتوثيق بل أدخل عملية المقارنة بين جمعة أخرى لوضع أرقام علمية أمام الباحثين مستندا في ذلك على تقارير بيانية توضح وبشكل دقيق الفروقات بين كل جمعة وآخرى من حيث التوسع والعدد، بالإضافة لتقارير أسبوعية بعد كل يوم جمعة تحصي نقاط التظاهر وتصنفها حسب كل مدينة, وتشير إلى أهم الأحداث التي جرت خلال كل جمعة.
لم يخلو هذا الجهد من المصاعب لأن "التوثيق يحتاج إلى الكثير من المراجعة والتدقيق خصوصاً في ظل صعوبة الحصول على المعلومة المؤكدة، مما يضطرنا للإضافة أو الحذف أو التعديل على ملفاتنا الإحصائية بعد أيام من إنشائها".
ومما يزيد من صعوبة العمل أن الفريق يعمل حتى اليوم بشكل طوعي, رغم "تلقينا العديد من العروض، لكن بعد التشاور كنا دائماً نصل إلى الإجماع في رفض أي شكل من الدعم خوفاً على استقلالية المركز وعمله ".
على صفحة المركز على الفيسبوك اليوم، نجد كشفا وتوثيقا بأعداد التظاهرات وأماكنها حتى اليوم. وكأن هؤلاء الجنود المجهولون يصرون على الحلم، والأهم أنهم يصرون على القول أن ثمة تظاهرات سلمية مازالت تخرج، وأن صوت الحرب العالي لا يلغي الحقيقة، وإن تجاهلتها وسائل الإعلام فالرقم أقوى من كل شيء، وهاهو يقول:
- 12 مظاهرة في 12 نقطة تظاهر في مختلف أنحاء سورية, في "جمعة فك الحصار لا إخراج المحاصرين". (تاريخ 31 يناير 2014).
- أحصى المركز 19 مظاهرة في 19 نقطة تظاهر في مختلف أنحاء سورية, في جمعة "براميل الموت والرخصة دولية" ( تاريخ 27 يناير 2014).
أليس الرقم أصدق أنباءً من الشاشات؟!