فجرت الانتفاضة السورية في المرأة طاقة الرفض لكل أشكال الاستبداد، فإذا كانت الانتفاضة بالنسبة للرجل السوري ضد نظام مستبد وحسب، فإنها بالنسبة للمرأة السورية ضد جبهات عدة: جبهة الاستبداد وجبهة الأهل/ الهيمنة الذكورية، وجبهة التطرف الإسلاموي، لأنها وعت باكرا أن بعض الذكور يريدون حرية على مقاسهم، فأبت إلا أن تسعى لتحطيم هذه الأغلال وتوسيع دائرة الحرية ما أمكن.
جبهة الاستبداد:
كانت النساء من أوائل المشاركين في التظاهرات السورية، بل كن رائدات فيها قبل الكثير من الرجال، إذ أقدمت "سهير الأتاسي" على التظاهر في أماكن عدة من دمشق في شهر شباط (2011)، و الناشطة "مروى الغميان" في سوق الحميدية ( 15 آذار 2011)، وليبدأ بعدها انخراط النساء السوريات بكثافة في التظاهر، بدءا من السيناريست "ريما فليحان" التي دعت للتوقيع على بيان "التضامن مع درعا"، والفنانة فدوى سليمان ومي سكاف والناشطة ريما دالي التي رفعت شعار "أوقفوا القتل نريد أن نبني وطنا لكل السوريين"، و كفاح ديب وبتول نيوف ورزان زيتونة والمحامية سيرين الخوري و روزا ياسين حسين وسمر يزبك و غيرهن الكثير. هنا كانت المرأة السورية تخوض نضالها إلى جانب الرجل ضد النظام المستبد الذي حكم البلد لمدة عقود طويلة.
https://www.youtube.com/watch?v=xVMp5mADYp0
جبهة الدين والمعتقدات والأعراف:
إلا أن نضال المرأة على المستوى السياسي لم يحجب عنها واقع السلطة الذكورية والدينية التي تقف ضدها، وبحكم تجربتها أدركت أنه طول فترة الاستبداد كان هناك تحالف ذكوري ( ديني سلطوي) ضدها، فبدأت تستثمر الانتفاضة السورية لتحقيق ما تريد. أحيانا كان يأتي الأمر في سياق الانتفاضة السورية وبشكل غير مخطط له لتبدأ معركة نضال جانبية تقودها المرأة من داخل الانتفاضة نفسها، وأحيانا يأخذ الأمر شكل حملة مخطط لها.
من الأمثلة التي جرت في سياق الانتفاضة السورية وبشكل غير مخطط له، هو الحملة المسعورة ضد الناشطة السلمية التي شاركت في تظاهرة العرائس "ريما دالي" حين كتبت على صفحتها على الفيسبوك عبارة "يا الله بدنا غيرك يالله" ردا على شعار " يالله ما إلنا غيرك يا الله" الذي تم رفعه كمحاولة للاستنجاد بالله ضد نظام الأسد، منتقدة الاتكال على الله بدلا من الاتكال على الذات، دون أن تقصد الإساءة للمقدسات الدينية، التي انبرت بعض التنسيقيات للزود عنها، وفي مقدمتها تنسيقية الميدان التي رأت في قولها كفرا صريحا، وطالبتها بالتراجع عما قالته، وانضم إلى الحملة جوقة من المثقفين ( كحكم البابا)، لتبقى "ريما" مصرّة على حقها بالتعبير، ودافع عنها العديد من المثقفين الآخرين الذين أكدوا على حق ريما في التعبير عن رأيها، و منهم الكاتب عمر قدور.
خلف قضية ريما نلمح صراعا بين قوى العلمنة وقوى الإسلام الديني الشعبي في صف الانتفاضة الواحد، حيث الصفان يقفان ضد النظام إلا أن أحدهما يضع سقفا لحدود الحريات، خاصة في الجانب الديني في حين أن البعض الآخر يريد كسر كل التابوهات، بحيث يريد إبقاء السلطة الدينية الذكورية مسلطة فوق الجميع، وخاصة النساء اللواتي يرفضن هذا الأمر ويقاومن على كل الجبهات.
ومن الحملات المنظمة التي قادتها المرأة السورية لترسيخ حقوقها في ظل الانتفاضة السورية، تمثل بانضمام عدد كبير من النساء السوريات لحملة "انتفاضة المرأة في العالم العربي" اوهي "صفحة كل النساء في منطقتنا من كل الديانات والإثنيات: من عرب وبربر ونوبيين .... لم نسمها انتفاضة المرأة العربية بل هي انتفاضة المرأة لأي إثنية انتمت..."، حيث شاركت النساء السوريات بفعالية وكثافة، تحت عنوانين واضحين: كسر الاستبداد السياسي من جهة، و الاستبدادين الديني والاجتماعي من جهة ثانية، حيث كتب بتول من سوريا على لافتة حملتها: " أنا مع انتفاضة المرأة في العالم العربي لأنو بدي صير رئيسة سوريا الجديدة"، وكتبت لامار من سوريا: "بس أنا حابة قول انو أنا لمار من سوريا ومافيني أفصل بين الثورة السورية عن ثورة المرأة !".
وعلى هذه الروابط يمكن رؤية ما كتبته النساء السوريات: منار من سوريا، و رؤى من سوريا و شادن من سوريا و أية من سوريا.
الخروج من أسر الحجاب:
إلا أن أهم ما يلفت الانتباه إليه في إطار انتفاضة المرأة السورية هو رفض بعض النساء للحجاب الذي ارتدينه لأعوام طويلة نزولا عند رغبة الأهل بعيدا عن حريتهن الشخصية، مقابل تمسك بعضهن به نزولا عند كونه حرية شخصية، وقد شهد مسار الانتفاضة عددا عن الحالات التي أقدمت فيها الشابات على خلع حجابهن تحقيقا لحريتهن الشخصية التي رؤوا أنها لا تنفصل نهائيا عن الحرية السياسية التي ينادين بها، إذ أقدمت الناشطة دانا بقدونس على إرفاق صورة لها من دون حجاب وهي تحمل جواز سفرها الذي تظهر صورة لها بالحجاب، حاملة لافتة كتبت عليها: " أنا مع انتفاضة المرأة في العالم العربي لأني كنت محرومة ولمدة عشرين سنة من أن يلامس الهواء جسدي وشعري"، الأمر الذي أثار جدلا حادا على صفحات الفيسبوك بين من رأى الأمر حرية شخصية، و بين من رأى أنه لا وقت الآن لهذه المعارك الجانبية، الأمر الذي دفع صفحة انتفاضة المرأة توجه تحية لدانا جاء فيها: تحية لدانا بقدونس، لانتفاضتها على ذكورية مجتمعها، لعلمها أن الثورة على الاستبداد السياسي لا تنفصل عن الثورة على الاستبداد الذكوري"
وكذلك ردت دانا على سؤال: "هلاء وقتها نقعد نحكي عن حرية المرأة وفي ناس عم تموت؟؟؟" بالقول: "أي نعم وقتها ... هذا النظام هو نتاج مجتمع احتضنه واستقبله، لم يثر بوجهه يوماً كما ينبغي. .. أننا نثور على النظام المجرم الفاسد وعلى الحاضنة التي احتضنته ... علينا نحن" .
تضامنت عدد من النساء من العالم العربي مع دانا ضد الحملة التي تعرضت لها، ومنهم فاطمة من تونس و نورا من سوريا.
ويبدو أنه كما تدافع دانا وغيرها عن حرية خلع حجابها، فإن فتيات أخريات يدافعن أيضا عن حرية ارتدائه وعن الوقوف بوجه النظرة النمطية التي توّجه للمحجبات خاصة من قبل العلمانيين، إذ نشرت بعض الصبايا صورة لها في صفحة انتفاضة المرأة وهي تحمل لافتة تخفي وجهها مكتوب عليها: "أنا مع انتفاضة المرأة في العالم العربي حتى لا ينظر المثقفون إلى حجابي على أنه سبب تخلف المجتمع"، ورفعت ليلاس من سوريا لافتة تقول" أنا مع انتفاضة المرأة في العالم العربي لأنو على الكل احترام رغبتي بارتدائي الحجاب وعدم نعتي بالتخلف فهو حرية شخصية (متلي متل غيري).
الأمر الذي يعني أن معركة النساء السوريات اتخذت وضعها الصحيح تماما، فلا هي ضد الحجاب بحد ذاته، ولا مع خلعه كزي، بل دفاعا عن حق المرأة في تقرير مصيرها ومصير جسدها ولباسها، وهذا أمر يحسب للنساء السوريات اللواتي يخضن نضالهن الطويل ضد الاستبداد والسلطات العائلية والذكورية والاجتماعية، التي وصلت حد رفع "بهيجة" من سوريا لافتة جريئة تقول: " أنا مع انتفاضة المرأة في العالم العربي لأنو مابدي اعمل عملية ترقيع غشاء بكارة حتى اقدر اتجوز"
جبهة التطرف الإسلاموي/ العسكري:
ولكن إذا كانت المعارك السابقة حصلت في وجه المستبد والسلطة الذكورية، فإن عسكرة الانتفاضة أفرزت قوى إسلامية ( النصرة، داعش، الجبهة الإسلامية، قوى مسلحة وغيرها) تعلن عداءها الصريح للمرأة ولأهداف الانتفاضة معا، مما جعل المرأة وجها لوجه مع الاستبداد الديني الذي لم ترضخ له، بل واجهته بقوة كما فعلت الناشطة "سعاد نوفل" في الرقة حين واجهت داعش، في حين وقعت "رزان زيتونة" ورفاقها في "مركز توثيق الانتهاكات" ضحية لها حين اختفوا فجأة في مدينة "دوما" دون معرفة مصيرهم حتى اليوم، إضافة إلى وقوع العديد من الإعلاميين والإعلاميات في قبضة "داعش" مثل سمرصالح ومحمد العمر دون معرفة مصيرهم حتى اليوم.
رغم وحشية "داعش" وسطوة السلاح، لم ترضخ المرأة السورية بل لازالت تقاوم عبر التواجد في تلك الأماكن، متحملة كل شيء، ولسان حالها يقول: لم نخرج ضد الأسد لنخاف من هؤلاء! إلا أن المعركة قاسية جدا في ظل خوض المرأة هذه المعركة لوحدها، وعدم انتباه الرجال لها، مما دفع الناشطة "رزان غزاوي" للقول: "جميع الذكور النشطاء يالي عم يقدرو يفوتو على المحرر أو أي مناطق متنازع عليها, هو بس لانو عندن قضيب. .. الحاجز كان شغلتو يسأل "النسوان" الغير محجبات يالي حاملين جواز سوري شو جايين يعملو ببلدن: "صحفية يعني؟". لازم يقلو الشخص يالي قاعد جنبها: "هي من عنا ونحنا ضامنينا." ههه .. البنت الثائرة .. عم تفوت رغم المخاطر كمان لتشوف كيف فينا تساعد .. عم يضطرو ياخدو إجراءات حماية مالها أول ولا آخر, بدءا من الحواجز "الثورية" والغير ثورية, مرورا بقطاع الطرق والخاطفين والمشولين, لحتى بفوتو ويكون فاعلات كسوريات ببلدهن وإزاء الثورة التاريخية. وهاد كلو بس لانو ما عندن قضيب, بس فقط لا غير .. منجي على النشطاء الذكور العلمانيين أو غيرن يالي عندن ميزة الدخول والخروج على كيفن, حدا منن كتب أو علق أو عارض أو ندد هالعراقيل يالي زملائن بالثورة أو شركائن على أساس بالثورة, عم يواجهوها؟".
جبهة السياسة:
تمثيل المرأة في الأطر السياسية للمعارضة لم يكن أفضل حالا، إذ لا تزال المرأة تعاني من التهميش في مراكز القرار السياسي، فهي ليست أكثر من ديكور يجمّل أطر المعارضة بعيدا عن أي قرار، وهو ما دفع الناشطة "خولة دنيا" للقول: "المعارضون يتعاملون مع النساء كالبهارات في الطبخ، وجودهن يعطيه نكهة ولكن لا يؤثر على المكونات الأساسية فيه... فعندما يفكرون بأي مؤتمر أو حركة هم يفكرون بأنفسهم، وحين يحين وقت الإعلان النهائي يتهافتون على البهارات كي تبدو طبختهم مميزة، وتلقى القبول لدى الجمهور. وهذا لا يتم إلا بالنساء، ولكني الآن أعلن أني لم أعد راغبة بهذه الطبخة ولا أريد المشاركة مع أحد لا يراني كفرد قادر على الفعل أو العمل".
في الختام، يمكن القول: إن تحليل ما سبق يؤكد أن المرأة السورية وسّعت نطاق انتفاضتها لتشمل كل شيء بدءا من نظام الاستبداد السياسي إلى النظام الذكوري وأطر المعارضة السياسية، وليس انتهاءا بالاستبداد الديني الذي يعمل لوراثة الاثنين معا.