تختزن نكات السوريين في مدلولاتها العميقة حكايتهم الطويلة مع نظامهم المستبد، إذ دأبوا طيلة عقود على تمرير نقدهم للنظام عبر نكتة تتجاوز حواجز السلطة وأعين مخبريها المزروعة في كل مكان، لتصبح معبّرا عن التوجهات الحقيقية لجمهور متعطش للحرية، ولعل نكتة الأرنب التي يضربه رجال المخابرات لكي يعترف، والتي يعرفها كل سوري منذ صغره، تعكس كيفية استخدام السوريين للنكتة في كسر الفضاء الرمزي المقدس للنظام، ولتكون النكتة في جوهرها: حكاية شعب قارع المستد بالضحك حين لم يقوى على مواجهة آلة قمعه، فما هو حالها اليوم بعد انكسار حواجز الخوف؟
بعد بدء الانتفاضة السورية، بدأ وجه سورية يتغير كليا، إذ عمد المتظاهرون على تحرير الفضاء الرمزي الذي كان يحتكره النظام كليا، من خلال تكسير تماثيل الرئيس الأب وتمزيق صور الرئيس الحالي، وإطلاق الأغاني الثورية التي تمجد الانتفاضة وتسخر من رموز النظام بوسائل متعددة كانت النكتة التي تغيّرت مواضيعها حسب كل مرحلة أبرزها.
وبعد أن تعمقت الانتفاضة و تجذرت وامتدت إلى مدن وأحياء كثيرة، باتت النكتة تنتقل من الفضاء الواقعي ( مكان إنتاجها) إلى الفضاء الافتراضي، حيث ينشرها الناشطون على صفحاتهم ويتناقلها الجميع، لتحقق هدفها في بث المتعة وتحقيق الانتقام الرمزي من أصحاب السلطة، لأن الهدف فضح موضوع النكتة والتعبير عن العداوة كما يقول فرويد، ليأخذها الإعلام ويقدمها كناتج من نواتج الانتفاضة السورية.
وهنا انتبه الناشطون إلى أهمية النكتة في الانتفاضة كفعل مقاوم، فبدؤوا يعملون على قوننة الأمر، من خلال تخصيص صفحات خاصة لنقل النكتة وروايتها والسماح للآخرين بروايتها وتناقلها لتكون فعل منظم بعد أن كانت فعل عشوائي، حيث بدأت تظهر صفحات خاصة بالنكتة، تخصصت في تأليف النكت أو نقلها من الشارع إلى صفحات الفيسبوك ليتفاعل معها الجميع، وهكذا ظهرت صفحات مثل "صفحة نكت الثورة الحمصية من الآخر التي كان آخر ما كتبته "اقتراح اندماج داعش وحالش ( حزب إيران في لبنان) لتشكيل جبهة تسمى فالج لا تعالج" مما يدل على مواكبة لصيقة للحدث اليومي والسياسي وتطوارته، إضافة إلى قيام الصفحة بتصميم صور تسخر من الدكتاتور بشكل دائم، كتلك التي تصوّر رسما كاريكاتوريا للرئيس مكتوب بجانبه: "الله ياخدكم حتى ترتاحو مني".
مواضيع النكات ركزت على شخصيات النظام التي كانت تحاط بهالات القداسة، وعلى السخرية من الموت والدبابة والطائرة التي تقصف، لتقديم معادل رمزي ضد الموت، بحيث يغدو الضحك وسيلة من وسائل المقاومة، وهو الأمر الذي يعكس روح شعب قرر أن يناضل وهو مبتسم وأن يذهب إلى الحرية ضاحكا، رغم أن الموت يحيط به من كل الجهات.
تقول إحدى النكات أنه بعد قصف مدينة دمشق قرر حمصي نزح إلى الشام أن يعود إلى حمص، وحين سئل عن السبب أجاب: "القصف اللي بتعرفو أحسن من القصف اللي بتتعرف عليه". وفي نكتة أخرى: سألت المعلمة طالبا: أين تقع حمص؟ أجاب الطالب بفخر: حمص لا تقع"، كدلالة على الصمود.
وفي السخرية من السلطة وخطابها الذي يعتبر أن سوريا تتعرض لمؤامرة كبرى، ثمة نكتة تقول أن إعلاميا سأل رجل من حمص: لماذا فقد الغاز من سوريا، فأجاب: لأن الحماصنة يطبخون مؤامرة كبيرة.
وفي دلالة على تجذير مطلب الثورة المتمثل بإسقاط النظام وتنحي الرئيس، ثمة نكتة تقول أنهم سألوا سوريا: ماذا ستفعل لو كنت رئيسا للجمهورية، فقال أتنحى!"، وفي نكتة أخرى تدل على أن السوريين لن يتخلوا عن فعل التظاهر، ثمة نكتة بأن أحدهم سأل مواطن حمصي: هل ستوقفون المظاهرات إذا ما سقط النظام فأجاب: وما علاقة هذا بذاك".
وفي متابعة خطاب النكتة وتحليله، سنجد أن النكتة عمدت إلى التواؤم مع كل المستجدات التي تحدث على الأرض السورية، حيث سيتغير خطاب النكتة ومضمونها مع تغير طبيعة الأحداث التي تحدث على الأرض السورية، فمع ظهور المعارضة المسلحة، سنجد أن النكتة ستتعامل مع الأمر بنفس الروحية، حيث سيبدع السوريون في تأليف نكات تسخر من الموت عبر الضحك عليه ومنه، إذ تقول إحدى النكات أن "شبّيحا" موجود على أحد نقاط التفتيش، جاء إلى معلمه وقال له: سيدي سيدي فيه جماعة جايين صوبنا. قال له المعلم:قوصهن شو ناطر ؟ رد الشبيح: سيدي و الله ما عرفتهن منّا و لا من الجيش الحر. رد المعلم: يا غبي قوص بالجو , إذا هربوا بيكونو منّا. رد الشبيح: سيدي و إذا ما هربو؟ قال المعلم: خبرني ع السريع حتى نهرب نحنا !.
ما سبق، يؤكد أهمية النكتة كفعل احتجاجي مرادف لوسائل النضال الأخرى، حيث تمكن المنتفضون السوريون، من استخدامها في مواجهة رواية السلطة وهتك فضائها المقدس، عبر السخرية من كل مقدسات السلطة، وإعادتها إلى طبيعتها البشرية، لأن السلطة المستبدة تقوم على وضع نفسها بمصاف المقدس الذي يجعل الخوف سيّدا على الجماهير، وهذا أول ما تسعى النكتة لهتكه وقد نجحت الانتفاضة السورية في هتكه إلى درجة أن الأطفال الصغار باتوا يروون النكات التي يسمعونها من الكبار بعد أن كانت النكات السياسية في سورية تروى على نطاق ضيق.