قبل أيام من الذكرى السنوية الثالثة للانتفاضة/الثورة، كان الأول من آذار 2014 يوما استثنائيا، كونه سجل أول و أغرب مظاهرة شهدتها البلاد حتى اليوم منذ بدء الانتفاضة، لأنها جمعت ضفتي الوطن المنقسمتين معا: مؤيدون ومعارضون في مظاهرة واحدة تجوب شوارع "السلمية" التي غابت عن خارطة الاحتجاجات لفترة طويلة لتعود اليوم بعد أن كانت رائدة في التظاهر والاحتجاج في الأشهر الأولى، إذ وصل عدد المتظاهرين إلى 17 عشر ألف متظاهر بحد أعلى وعشرة آلاف بحد أدنى، ليتوقف الاحتجاج فيها في آب 2011 جراء القمع الذي تعرضت له المدينة ونزوح أعداد كبيرة من حماة وحمص وأريافهما في تموز(2011) و تمكن السلطة من "قوننة" ( القوننة هنا تأخذ معنى تنظيمها في قمع الاحتجاج فقط وليس خضوعها للقانون) ظاهرة "الشبيحة" في لجان شعبية تمكنت من ضبط المدينة وملاحقة الناشطين، الأمر الذي دفعنا في "سيريا أنتولد Syria untold" للتواصل مع نشطاء المدينة للوقوف على حكاية هذه المظاهرة وحكاية المدينة اليوم.
بعد أن تمكن النظام من وأد حركة الاحتجاج لم تنخرط المدينة الرائدة في سلميتها و مدنية ناشطيها في حمل السلاح إلا "في الآونة الأخيرة وجزء بسيط من شبانها فقط"، وذلك "لإصرار من شبابها وعقلائها بأن العسكرة قد تعطي نجاحا للثورة، لكن مشروع العسكرة مشروع باهظ الثمن ونتائجه قد لا تظهر بشكل سريع, من هنا أتى استمرارية استكمال العمل السلمي ومواجهة آلة القمع والموت بأصوات الحناجر واللاعنف" ولو بحد أدنى كما يقول الناشط اسماعيل الشمالي لموقعنا.
إلا أن حركة القمع الممنهجة أدت تدريجيا إلى تراجع الحراك المدني، واضطرت أغلب النشطاء وشباب المدينة للاختفاء أو الهرب، سواء من ملاحقة الأمن أو من الخدمة الإلزامية، "ومنهم من كان معتقل سابق وأصبح منزله مزارا للأمن والشبيحة، ومنهم من حمل أحد أقاربه السلاح بوجه النظام فهرب خوفا على نفسه من الاعتقال والتعذيب، ومنهم من تشابه اسمه مع اسم أحد المطلوبين فقرر الهجرة.." ليصل عدد المهجرين إلى ثلاثة آلاف مواطن ( وفق أرقام اسماعيل الشمالي ) "معظمهم من حملة الشهادات الجامعية والطبقة المثقفة"، لتصبح المدينة "خاوية على عروشها من أبنائها المثقفين والناشرين مفهوم الثورات بالطرق السلمية واللاعنفية"، الأمر الذي أطلق يد "اللجان الشعبية" (الشبيحة) الذين بدؤوا عمليات التضييق على الناس وإطلاق النار دون سبب واعتقال وخطف المواطنين والناشطين مقابل طلب فدية، الأمر الذي وسّع دائرة الضيق منهم إلى الفئة الموالية التي لم يحميها ولائها للنظام من بطش هؤلاء، إذ تزامن غضبهم مع عقاب النظام للمدينة عبر حرمانها من الماء والكهرباء ووسائل التدفئة والأنترنت و الهاتف الخليوي والمواد التموينية التي ترافق غيابها مع ارتفاع الأسعار.
ضمن هذا المناخ المشحون تكاثفت تضييقات "اللجان الشعبية" دون رادع من ضمير أو سلطة، إلى أن وصلت ذروتها "بخطف الشاب قاسم عدنان حمود ليطلب من أهله فدية بقيمة ثلاثمئة ألف ليرة سورية ( ألفين دولار)، ليجد أهله جثة ابنهم مرمية على أطراف البلدة بعد دفعوا الفدية نظرا لمعرفتهم بأنه محتجز بإحدى مزارع الشبيحة المحيطة بالبلدة".
مقتل الشاب الذي " أجمع غالبية الناس على طيبته وعفويته وأدبه وتسامحه مع جميع أبناء المجتمع حتى الشبيحة أنفسهم" زاد من غضب الناس الذي أججه اعتقال المحامية "جيهان أحمد أمين من منزلها ( مصيرها مجهول حتى اليوم) و "الانتشار الملحوظ لمقاتلي حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني في شوارع البلدة"، وفجره أخيرا "اعتداء الشبيحة على الشاب حسان القصير الذي يعمل في محله المتواضع الكائن قبالة "الجيش الشعبي" في الحي الجنوبي للمدينة, أمام أعين المارة وفي وضح النهار، إذ قاموا بضربه بالعصي والهراوات حتى أغمى عليه تقريبا" الأمر الذي دفع أهالي المدنية ووجهائها إلى توجيه رسالة لمسؤولي السلطة طالبوهم فيها بمعاقبة "الشبيحة" وكف أيديهم عن الناس وإطلاق سراح المعتقلين من المدينة خلال 48 ساعة، إلا أن مطالبهم ذهبت أدراج الرياح، الأمر الذي دفعهم لتنظيم مظاهرة "جامعة لكل أطياف المدينة من معارضين ومؤيدين" بدأت من الساحة العامة التي يطلق عليها النشطاء اسم "ساحة الحرية" ومشت حتى السراي الحكومية وشعبة الحزب غربا، " حيث علت أصوات الحناجر مرددة "يلي ما بيشارك مافيه ناموس" و" بالروح بالدم نفديكي سلمية" و "وين النخوة يا سلموني" و "إيد وحدي" إلا أن الأمن كالعادة كان للمظاهرة بالمرصاد وأطلق النار العشوائي لتفريقها، وأتبع الأمر بمجيء ثلة من شبيحة حي "ضهر المغر" الذي يضم أكبر نسبة "شبيحة" في المدينة وبدأوا بالهتاف "نحنا... بدنا ندوس السلَمية / بالروح بالدم نفديك يا بشار".
إلا أن النظام بحسّه الأمني أدرك خطر التظاهرة عليه كونها للمرة الأولى في تاريخ الانتفاضة تضم موالين ومعارضين، فعمد مباشرة إلى احتواء الأمر تخوّفا من تمدده وتحوّله إلى ظاهرة، حيث أصدرت سلطات المدينة قرار بـ"منع مظاهر التشبيح في شوارع السلَمية والسيارات المموهة بالأسود، "إرضاء للأهالي الغاضبين" كما جاء في صحيفة الحياة نقلا عن ناشطون.
في قراءة ما حدث يقول الناشط اسماعيل الشمالي لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold" هو "تنفيس واضح وتململ ملحوظ من أهالي البلدة بسبب أفعال الشبيحة . لكن هذا لا يعني أن الأمور ستقف عند هذا الحد بل يمكن أن تتطور تدريجيا إذا ما لاقت هذه الاحتجاجات آذان صاغية وعدالة قانونية تحاسب كل من اقترف جرم بحق المدنيين الأبرياء وإيقاف العوائل المذكورة ( العائلات المعروفة بتشبيحها) عند حدهم" معتبرا أن الأمر أخذ "شكلا ثوريا آخر بعدما ائتلف أبناء المدينة ( موالين ومعارضين) لمواجهة النظام وأزلامه". ولعل ما رفعته "نساء تنسيقية مدينة السلمية" في منازلهم من لافتات بالذكرى السنوية الثالثة للانتفاضة يؤكد ذلك، حيث روح التحدي لاتزال حاضرة بانتظار أن تجد مسارب داخل قلعة القمع هذه.