ثمّة خطأ شائع يتناقله الكثيرون على أنه حقيقة، خطأ يقول: أن ثورات الربيع العربي، ومنها الانتفاضة/ الثورة السورية لم يكن للمثقفين دور فيها. وهو أمر صحيح، إذا نظرنا للثقافة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، على اعتبار أنها مجموعة من الكتب أو المثقفين المتنبئين بالثورة و المنظرين لها، إلا أنه غير صائب إذا قرأنا الانتفاضة من داخلها، بما أفرزته وكوّنته من ثقافة جديدة وفاعلة تولد في المخاض الصعب وتتطور يوما بعد يوم في حاضنة الثورة لتنمو معها. ثقافة قامت أساسا على الضد الثقافة الأولى التي ساندت الاستبداد وكانت رديفا له، ولكن من هي هذه الثقافة؟ وكيف تكوّنت؟ وما هي حكايتها؟
أسئلة كبيرة وكثيرة، تحتاج ملفات كثيرة وأبحاث معمّقة تتولاها مراكز أبحاث كبرى، إلا أننا سنحاول في "سيريا أنتولد Syria untold" أن نسلّط الضوء على حكايتها، بشخوص مبدعيها ومكونيها، بمجموعاتها وأفرادها، لنلق ضوءا على ثقافة غير نهائية التكوين، تساند الثورة/ الانتفاضة وتردفها وتتجادل معها على ضوء صعوبات الواقع، كما هو حال تجمّع "المترجمون السوريون الأحرار" الذي عقد اجتماعه التأسيسي في التاسع والعشرين من شهر أيلول (2011) على يد مجموعة من الناشطين، ليبدأ عمله بـ " ترجمة المقالات الطويلة والدراسات الصادرة عن صحف أجنبية ومراكز الأبحاث العالمية، و الأفلام الوثائقية التي تنتجها المحطات العالمية الناطقة بغير العربية. إضافة إلى مقاطع عن تقارير إخبارية وأفلام وثائقية أو قصيرة ذات طابع خاص من اللغة العربية إلى لغات أجنبية متعددة"، وذلك كله بهدف أن "نساهم بنقل صورة صادقة وحيادية للعالم لما يجري في بلدنا الحبيب سورية خلال رحلته نحو الحرية. حيث نقوم بالترجمة من وإلى اللغة العربية ونغطي مجموعة من اللغات كالإنكليزية والفرنسية والألمانية"، فمن هؤلاء؟ وكيف ولدوا؟ وما هي علاقتهم بالثورة؟ وكيف يقومون بما يقومون به في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي تحياها سوريا اليوم؟ وهل تساهم ترجماتهم في تأسيس وعي/ ثقافة جديد/ة أم ماذا؟
https://www.youtube.com/watch?v=JRsqrTp3MKY
إنهم "مجموعة من الشباب السوري الحر" الذين لاحظوا في بداية الثورة أن ثمة "هوة كبيرة بين الإنتاج الفكري العالمي فيما يخص الشأن السوري وبين ما تنقله وسائل الإعلام العربية المطبوعة أو المرئية" إذ هناك "مقالات في صحف عالمية ودراسات عن مراكز أبحاث استراتيجية ذات خبرة في حركات التحرر والنزاعات، تصدر كلها بلغات أجنبية ولا تصل للمواطن السوري، سواء كان مواطنا عادياً أو من الناشطين في المجال السياسي أو الإنساني"، ولأن الثورة معرفة في نهاية المطاف، وعليها أن تتفاعل مع ما يجري في العالم لتكون قادرة على التعامل مع المتغيرات وفهم العالم ومعرفة كيفية مخاطبته، ناهيك عن أهمية الأمر للناشطين أنفسهم ليكونوا على وعي فيما يحصل حولهم، ولدت فكرة "تأسيس مجموعة للترجمة" في الشهر الثامن (2011) ليتم عقد عدّة اجتماعات بين ناشطين ومترجمون من الداخل و الخارج انتهت بالاتفاق على "التوجه العام ضمن الفريق وطريقة العمل وآلياته"، ليبدؤوا بترجمة أول فيلم وثائقي بثته "بي بي سي" من قبل أربعة عشر ناشطا/ مترجما وزعوا العمل (الترجمة، التدقيق، التنسيق مع فريق كل لغة، إنتاج الحاشية السينمائية ( سابتايتل) وأفلام، التنسيق العام، النشر، بالإضافة إلى الهندسة والدعم التقني) فيما بينهم.
الفريق الذي وصل عدد متطوعيه اليوم إلى ثلاثة وثلاثين متطوّعا، مقسمين إلى "فريق إداري وفرق للغات المختلفة وفريق تقني و "أصدقاء من شتى الجنسيات"، يعمل على مدار الساعة، مستفيدا من توّزع ناشطيه في كل قارات الأرض، لأن "انتشار أعضاء الفريق في عدة بلدان أمر مفيد جداً للفريق" لأنه يعمل "في كافة التواقيت إذا ما اقتضى الأمر لتناول مواد مستعجلة" وهو ما ساهم في سرعة الإنجاز دون التخلي عن النوعية التي يتم اعتمادها وفقا لـ "مداولات دائمة حول موضوع كيفية اختيار المواد وطريقة انتقائها"، إذ يتم "التصويت على صلاحية أية مادة للترجمة، ويكفي صوتان يوافقان على الترجمة ليبدأ العمل. بعض المواد تتعدد فيها الآراء ويتم تداول صلاحيتها للترجمة والنشر، ويُتخذ القرار في حالات كهذه عبر النقاش بين كل أعضاء الفريق وموافقة الأغلبية، ويتم إلغاء المادة إن لم تحظ بالإجماع" علما أن الفريق لا يخضع لهرمية إدارية معنية، إذ "يتساوى جميع الأعضاء من هذه الناحية" كما يقولون في حوار مع موقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
تمكن الفريق حتى اليوم من إنجاز آلاف المقالات والأفلام والتقارير التي ينشرها على موقعه الالكتروني المحجوب في سوريا، وعلى صفحته على الفيسبوك، ليشكل حالة معرفية نادرة، تمارس الثورة/ الانتفاضة من بوّابة الثقافة، لتعوّض النقص الذي سبّبه الاستبداد من جهة، وهي تخوض سباقا معرفيا لأجل مواجهة التشويه الذي يبثه النظام من جهة أخرى، عبر ترجمة العديد من الأفلام والمقالات والمواد التي تعكس رأي السوريين وجوهر ثورتهم لتقديمها للعالم، بمواجهة نظام يعمل على شيطنة حراكهم، ولأجل رفع وعي الناشطين/ الثوّار أنفسهم.
https://www.youtube.com/watch?v=yPIgfPBO5xc
و لا يكتفي الفريق بالترجمة فقط، بل يضع نفسه بخدمة النشاط المدني المباشر، حين يشارك مجموعاته الفاعلة على الأرض نشاطهم، من خلال "ترجمة مواد تتعلق بحملات الثورة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية"، إضافة إلى أن المواد المترجمة تحمل في حد ذاتها بعدا نضاليا من حيث علاقتها المباشرة بالثورة، وتسليط الضوء على عيوب الاستبداد ليس في سوريا فحسب، بل كل الاستبداد عبر نقد بنيته الثقافية في العمق، كما في حال فلم "خمس خطوات نحو صناعة الاستبداد" الذي ترجمته المجموعة وهو من إنتاج "البي بي سي" (2001)، و يغطي عدد كبير من تجارب علم النفس الاجتماعي التي تكشف كيف أن الإنسان قادر على ارتكاب الفظائع، وكذلك في ترجمة إبداعات السوريين التي تهملها وسائل الإعلام لكي يراها العالم، كما في فلم "تغطية" الذي مثله وأخرجه الممثل الفلسطيني الذي مات تحت التعذيب "حسان حسان".
و هذا كله دون أن يتلقى الفريق أي تمويل، لأن "مبدأ العمل تطوعاً يميّز الفريق ويتيح له المحافظة على حيادتيه واستقلاله في اختيار المواد المترجمة" حيث يغطي الفريق نفقاته من خلال "مساهمات مالية من أعضاء الفريق أو القيام بأعمال ترجمة مدفوعة".
ولأن الثقافة والمعرفة حاجة يومية بعكس الثورة/ الانتفاضة التي ستنتهي مهما طال زمنها، لا يربط الفريق بين عملهم وإسقاط النظام، "بل نريد للعمل أن يستمر. كنا قد ناقشنا آليات عمل المترجمين السوريين الأحرار بعد سقوط النظام، سنعلنها في وقتها"، ربما حين يتحقق حلمهم بـ "دولة الحرية والعدالة" التي ستتيح "لكلٍ منا" تحقيق "أحلام صغيرة في سوريته الحرة".
"المترجمون السوريون الأحرار" يعكسون وعي شعب يدرك أن الثورة وحدها لا تكفي، إن لم تردف بثقافة تسندها وتنقدها في آن، لذا هم يبدعون ويترجمون لتغيير الوعي الزائف الذي خلقه النظام عبر إنتاج وعي وثقافة تقطعان مع ثقافة الاستبداد وتمهدان الطريق لثقافة الحرية.