لا شيء يقف أمام إرادة الإنسان إن أراد شيئا، فما بالك إن كان يريد الحرية التي لامست نسماتها وجنات شعب متعطش لها منذ عقود؟
وإذا كان الشاعر التونسي "أبي القاسم الشابي" ربط بين إرادة الشعب للحياة و استجابة القدر، والشاعر السوري "نزار قباني" ربط بين جوع الإنسان وغرز أسنانه في لحم القمر، فإن الشعب السوري قد فعل أكثر من ذلك بكثير، حين أبدع من التظاهرات والحيل بمواجهة الاستبداد ما يوازي المستحيل، فما بالكم إن كان هذا المستحيل بتوقيع "نساء تنسيقية مدينة سلمية" التي أنجبت الماغوط الساخط على كل شيء، فجاءت حفيداته ليواصلن دربه في تحدي " النظام الطائفي" عبر القول له "سنبقى شوكة في حلقه"، فمن هاتي النساء؟ وما هي حكايتهن؟ وكيف يوصلن رسائلهن وسط هذا القمع الذي يحاصرهن من كل الجهات؟
كانت مدينة السلمية الواقعة في وسط سوريا، من أوائل المدن المنتفضة ضد النظام، حيث بدأت المظاهرات والكرنفالات التي شاركت بها النساء بقوة، بالتوازي مع تظاهرات المدن الأخرى، مما أعطى المدينة "ميزة هامة و مضيئة لدور المرأة السورية والسلمونية في الحراك المدني السلمي الثوري" كما تقول إحدى نساء التنسيقية لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
هذه المشاركة النسائية والمدنية الفعالة هي ما فاجأ النظام وأخافه في آن، لأنه كان يسعى جاهدا لإظهار أنه يواجه عصابات سلفية، فكانت أن كسرت سرديته المملة عن حماية الأقليات التي سعى لترويجها، لذا أعطى المدينة كل جهده وقمعه لتفريغها من نشاطها الذي ساعدته بها جهات معارضة وأخرى إعلامية محسوبة على الانتفاضة حين عتمت على نشاط المدينة، فبدأ حملة اعتقالات موّسعة مترافقة مع شائعات كثيرة عن سلفيين وإرهابيين ( كان هذا في عام 2011)، الأمر الذي أدى إلى "انحسار المظاهرات السلمية" التي اقتصرت "على أعداد قليلة و مظاهرات طيارة وكانت النساء عمودها الفقري". النساء اللواتي آخذن على عاتقهن ألا يخيفهن هذا القمع، فشكلن تجمع "نساء تنسيقية مدينة سلمية" للحفاظ على "استمرارية العمل الثوري المدني".
أول النشاطات التي قمن بها بعد تراجع حركة التظاهر، هي "مسير صامت" يجوب شوارع المدينة بصمت، بينما أيدي المتظاهرين تحمل لافتات تحيي المدن الثائرة وتطالب بإطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين و"الاحتجاج على ما يقوم به الأسد من قصف و حصار وتدمير للمدن الثائرة" مما أخاف النظام مرة أخرى، فدفع أجهزته للصدام بشكل مباشر مع المتظاهرات، حيث حدثت "مواجهات بين المسير النسائي الصامت ودوريات المخابرات الجوية وسلاحهم وسياطهم" مترافقة مع اعتقال موّسع للناشطات، الأمر الذي ألزم الناشطات بيوتهن.
إلا أن حفيدات الماغوط اللواتي تربين على نغمات الحرية التي داعبت مخيلاتهن وهن يقرأن قصائد الشاعر العارية إلا من الأمل لم يرضخن للقمع مرة أخرى، وبدأن التفكير بكيفية تحويل البيوت إلى ساحات تظاهر، من خلال تنظيم "اعتصامات منزلية نسائية مصوّرة رفعنا فيها لافتات وبيانات تعبّر عن موقفنا السياسي و أيضا عن استمرارنا وعدم خضوعنا لنظام الأسد المتوحش" حيث كانت لافتاتهن تعبر عن رؤيتهن التي يريد النظام طمس معالمها، فتقول إحدى اللافتات "اختزلت ثورتنا كل مطالبها بشعار واحد فقط: بدنا حرية بدنا كرامة. ومازال هو مطلبنا حتى سقوط القاتل وإعدامه" في رسالة تحدي بالغة الدلالة، تقول "سنبقى شوكة".
وفعلا بقوا كذلك، فهاهي الثورة تدخل عامها الثالث وهاهن من منازلهم يصرخن ويرفعن لافتاتهن تحت صور وأشعار الماغوط، مؤكدين تهافت رواية النظام عن "حماية الأقليات"، فالمدينة المحسوبة على أحد الأقليات ترفض هذه الرؤية، وتقول "لا يستطيع خداعنا أو الضحك علينا بكذبة حماية الأقليات، لأن الثورة السورية ثورة كل السوريين مهما كانوا وأينما كانوا. هدفها واضح ومحدد إسقاط نظام العائلة الأسدية و أذنابها و خلق سورية جديدة تؤمن بالمواطنة والتعددية والقانون".
اضطرارهن للاعتصام داخل البيوت لم يمنع نشاطهن المدني الآخر في "مجالات الإغاثة و مساعدة النازحين و أهالي المعتقلين و الشهداء" معتمدين على مواردهن الذاتية المعجونة بـ "لقمة أبنائنا وتعب أزواجنا" مما يعطي نشاطهن هذا " كل الروح الثورية المعطاءة الطاهرة" كما يقلن.
رغم إيمان التنسيقية المطلق بالعمل المدني السلمي عبر القول "كنا ولا زلنا مؤمنات بأهمية النشاط المدني للمعارضة السورية"، إلا أنهن بذات الوقت يؤيدن الكتائب المسلحة المنضوية تحت إطار "الجيش الحر" لأن "الثورة المسلحة كانت ممرا إجباريا لثورتنا في وجه نظام قاتل ومجرم يذبح الأطفال ويبيد البشر بالكيماوي".
ولأنهن نساء أولا، ويعلين من قيم السلمية ثانيا، جاء وقوفهن ضد "داعش" ليكمل وقوفهن ضد النظام، لاعتبارهن داعش تكمل "مهمة النظام الأسدي" من خلال إجهازها "على ما تبقى من الناشطين المدنيين والإعلاميين في المناطق المحررة. وكان هذا سببا هاما لعدم انتشار الحراك المدني من جديد في هذه المناطق" كما تقول إحدى ناشطات التنسيقية لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold".
"نساء تنسيقية مدينة سلمية": صبايا سوريات، قررن عدم السكوت على الظلم، وعدم الركون لرواية النظام بأنه حامي الأقليات، فانتفضن وسرن في شوارع السلمية المحسوبة على انتماء طائفي ما، ليقلن لا مدوّية بوجه نظام قاتل.
ولعل صرختهن بالذكرى الثالثة للثورة من داخل بيوتهن خير دليل على ذلك، وهي صرخة تقول "لا خنوع ولا خضوع ولا ركوع. سلمية = درعا =حمص=حلب = عامودا= الغوطة = ديرالزور= سورية ونحن نخجل أمام تضحياتهم ودمائهم وأطفالهم".
صرختهن المتحدية للدكتاتورية رغم ثلاث سنوات ثورة، لم تمنعهن من مد لسانهن الماغوطي للعالم، في لافتة تقول: "ثلاث سنوات من الموت والدمار والمجتمع الدولي محتار. سحقا لضمائركم الميتة".