كانت مدينة دوما القريبة من العاصمة دمشق من أوائل المدن المنتفضة ضد الدكتاتورية، كما كانت من أوائل المدن التي اتجهت نحو حمل السلاح، لتعيش مواجهة دائمة مع الحصار والتجويع والتهديد بالاجتياح والاعتقال من جهة، ومع تراجع الحراك السلمي المدني الذي فرضته العسكرة من جهة ثانية، وعدم تغطية وسائل الإعلام لبقايا المقاومة السلمية فيها من ثالثة، الأمر الذي خلق حالة رمادية في المدينة المحاصرة والمعزولة بفعل غياب التغطية الإعلامية عنها، مما دفع مجموعة من ناشطي المدينة لإطلاق "مبادرة صغيرة من قلب مدينة دوما في سعي لتلوين المدينة, لتخفيف الحالة الرمادية العامة فيها، وإزاحة غبار التعب والحرب لتظهر وجها آخر لدوما الثائرة , الصامدة والمحاصرة"، مختارين اسم "الصحرا" لمشروعهم هذا. وكأن لسان حالهم يقول: نحن الذين سنحوّل صحراء الاستبداد إلى جنة حرية، وصحراء الحصار إلى لون وصخب وحكاية وقصيدة شعر، الأمر الذي دفعنا في "سيريا أنتولد Syria untold" لقراءة صحرائهم ومحاولة فهم كيف يتحوّل السراب بين أيديهم إلى ماء ولون؟ وكيف يقاومون اليأس والموت والنسيان بالإصرار على قرع جدران الحياة؟
استفاق أهالي المدينة في آذار 2014 ليروا جدرانا ملونة، وخرائب كانت رمادية فأضحت تضج بألوان الحياة، إذ أقدم الناشطون على امتشاق ألوانهم والبدء بورشة عمل ورسم لتلوين الجدران، مع كتابة شعارات تعكس أوضاع الناس المحاصرة من جهة وتمدهم بالأمل من جهة أخرى: شعارات لم تزل تسعى لمسح آثار الغبار والحصار والتعب الذي بدأ يظهر على الناس بعد ثلاث سنوات من الثورة ضد نظام مستبد، فتأتي عبارة "اصبر ياوطن" التي رسمها الناشطون في 5/3/2014 على جدران المدينة لتقول الكثير عن أناس هدهم التعب ولم يبلغوا حافة اليأس أو يغادرهم بئر الأمل، واعدين إيانا( وهم المحاصرون): "انتظروا أثارنا على جدران المدينة . عل هذا العمل البسيط يعيد جزئا ولو صغيرا لثورة بعد ثلاث سنوات بدأ يبان عليها التعب. اصبر يا وطن ...".
تغدو شعاراتهم المكتوبة على الجدران على قلتها، رسائل من داخل الحصار إلى الخارج، كما هي رسائل لأنفسهم، وكأنها تقرأ اللاشعور أو لحظات الضعف في الناس المحاصرة، فكتبت على جدران المدينة المهدمة بتاريخ 29/3/2014: " كن أنت، هناك الكثير من الآخرين"، دون أن تنسى أيضا أن "الثورة أنثى" فكتبت بتاريخ 18/3/2014 العبارة مرفقة مع وجه أنثوي يبث الماء في صحراء الخراب.
إلأ أن أبلغ الرسائل وأقواها تأتي من قيام الناشطين بإرفاق مقطع من قصيدة الشاعر المصري الشهير "أمل دنقل" مع الجدارية المرسومة، في رسالة متحدية للمستبد الذي يحاصر المدينة، حين تدعو الناس للصمود بوجه الحصار والاستبداد، وعدم الرضوخ لإغراءاته ومصالحاته المزيّفة، إذ يقول المقطع: " لا تصالح/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل ترى؟ تلك أشياء لا تشترى".
ولأن الأمل ينتقل بالعدوى، فكما كانت التظاهرات تنتقل من مدينة إلى مدينة بفعل عدوى الحرية، فإن الأمر نفسه أيضا بالنسبة للرسوم والغرافيتي والجداريات، حيث قام أحد أبناء مدينة مسرابا التي تنتمي لريف دمشق أيضا، متأثرا بمشروع الصحرا، بتلقف فكرة الجدارية ورسم على جدران مدينته جدارية " لا للجوع ولا
https://www.youtube.com/watch?v=Y4wCrzU3XNc
للركوع"، حيث كتبت "الصحرا" على صفحتها على الفيسبوك، وهي ترفق العمل: " إن هذا العمل هو لشخص مجهول أعجب بفكرة الصحرا وتبنى الاسم"، لنكون أمام أمل متنّقل يجتاز الحصار المفروض بين المدن، ويهزأ من دبابات الاستبداد المرابضة على الأبواب، إذ لم يحدث في التاريخ أن تمكن مستبد من قمع الفكرة أو اللون.
آخر إنجازات المجموعة بالتعاون مع "رسل"، هو فلم آرت حمل عنوان "لا تخلي الوهم يخدعك"، إذ يرصد لحظة قيام المجموعة برسم جدارية ممثلة بقفص وطائر يخفق بجناحيه معانقا هواء الحرية، وكأنهم يقولون: ما بعد هذا الحصار إلا الحرية، فلا تدعو وهم الاستبداد يغشى على عيونكم.