لمعتْ أعمال الفنان أكرم أبو الفوز، ابن مدينة دوما، كضوء نادر في عتمة المشهد السوري، ورغم تناقلها الواسع على صفحات "الفيسبوك"، إلاّ أن ذلك لم يفي بالمطلوب، ذلك أنها تحتاج إلى احتفاء لائق لما تحمله في طيّاتها العديد من القيم الجمالية والإنسانية، شبه الغائبة عن اللحظة السورية الآن.
الأعمال التي نتحدّث عنها هي ببساطة سلسلة من الأعمال اليدوية، تقوم على الرسم على بقايا الأسلحة والقذائف والصواريخ، وتحويلها من أدوات موت إلى قطع فنية تنبض بالجمال.
كما أن أعمال أبو الفوز تعيدنا إلى أحلام شعرية صافية، لطالما أطلقتها القصائد العربية في إعلانها عن رغبتها بتحويل الأسلحة إلى خردة. أو في إطلاق وابل سخطها وغضبة هجائها في العصر الحديث، بعد أن استفاض الشعر العربي القديم في مديحها، والتغنّي بها، واعتبارها جزءاً لا يجزأ من شخصية الإنسان.
ولعل أكثر ما يعرفه السوريون في هذا الباب قصيدتا "مؤتمر الجماد" لبشارة الخوري "الأخطل الصغير"، و"الأسلحة والأطفال" لبدر شاكر السياب. القصيدتان اللتان احتفى بهما المنهاج المدرسي السابق الذي أطاح به النظام مع بداية الثورة في 2011. حيث صارت القصيدتان من علامات الذاكرة السورية، ومن الدلالات العميقة على الوعي السوري لفكرة السلام.
تتخيّل قصيدة الخوري مؤتمراً لأدوات الحرب التي تقوم بإضراب شامل، وتلتقي في محفل ليتحدث كل منها بألمه الشخصي، وكيف جرى سلب حياته منه، ووضعه في سياق ومصير غير الذي يريده، فها هو الفولاذ يخطب في زملائه قائلاً:
"قال لو أنصفتُ ما كنت سوى/ سكةٍ أو معولٍ أو منجلِ"
أما البارود فيقول وهو يغلي من شدة الغضب:
"أنا لو خيرت لاخترت البقا/ في يد الآسي وعلم الصيدلي
أنقذ الإنسان من آلامه/ ولقد أدرأ بعض العلل"
أما قصيدة السياب التي تتطلّع إلى عالم جديد ينعم فيه الأطفال بالسلام، دون أن تتوانى عن فضح الممارسات الإجرامية لتجار الأسلحة والموت:
رصاصٌ ليخلوَ هذا الطريق
من الضحكة الثرة الصافيةْ
وخفقِ الخطى والهتافِ الطروبْ
فمن يملأ الدار عند الغروبْ
بدفءِ الضحى واخضلالِ السهوبْ
لظى الحقد في مقلة الطاغيةْ
ورمضاء أنفاسه الباقيةْ
يطوفان بالدار عند الغروبْ
وأطلالها البالية..
نظرياً ينتمي مشروع الفنان أكرم أبو الفوز إلى هذه الأفكار، دون أن يكون قادماً منها بشكل مباشر، بمعنى الاتصال الثقافي القائم على الاختبار والقراءة والمراجعة، بل ينتمي لهذا الفضاء انتماءً عفوياً دون أية بلاغة. كما ينتمي بالعفوية ذاتها إلى روح الفن الشعبي السوري، وعلى وجه الخصوص الأرابيسك.
لا يوجد ما هو غير عادي في سيرة هذا الرجل الذي يعيش لاجئاً في بيت آخر غير بيته الأصلي، بعد تعرض الأول للحرق من قبل قوات النظام السوري، في مدينة دوما التي سبق وقدمت لنا نموذجا مشابها، سلّطنا عليه الضوء في حكاية أخرى في "سيريا أنتولد Syria untold".
أكرم الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، وهو أب لثلاثة أطفال، يؤمن أن عمله لا يقل أهمية عن عمل الثوار على الجبهة، ومن وجهة نظره أن تخليص الناس من العبودية التي صنعها النظام لا يكون بالسلاح وحده، بل أيضا بالفنون المختلفة التي تتميز بحس حضاري يمكن من خلاله الإمساك بخيوط الحريات التي يطمح إليها السوريين كما يقول في حوار أجراه معه موقعنا "سيريا أنتولد syria untold".
تلوين طلقات الهاون وعبوات الرصاص الفارغة بزخرفات تشرق وتتفرد بألوانها بإتقانها، فنٌّ غير عادي في بيئة أصبح الموت لونها الوحيد. فالأدوات التي يمكن استخدامها في الرسم على النحاس الذي يستخدم، بشكل ما، في صناعة تلك الأدوات، يمكن استخدامها للرفض ومناوئة أفعال هذه الأدوات.
ثم إن فكرة العمل التي تجمع عنصري الحرية والجمال في رسالة واحدة، تأخذ الأداة من الراهن السوري، لكنها تبث فيه تاريخية الروح السورية بكل جماليات زخرفاتها التراثية. إنه عمل عن "الآن" لكنه يستحضر كل "آن"، في سبيل تجربة فنية تمكّن من استشراف طموح السوري في تطلعه العميق إلى فضاء الحرية. وما الحرية في الفن إلا تجلٍّ صافٍ للحرية السياسية والحقوقية التي عمل النظام، ويعمل، على وأدها ومصادرتها بالعنف والاعتقال والتصفية والتشريد.
الصعوبات التي واجهها أكرم في البداية هي تأمين الأدوات اللازمة للبدء في تنفيذ الفكرة. وعلى الرغم من وطأة الحرب الذي دفعته إلى ترك بيته، إلا أنه يواصل عمله اليومي على مشغولاته، كما لو
أن هذه المشغولات ستكون شاهدة، في الغد، على الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق البلاد.
في الصور المرفقة مع هذه المادة، ثمة أطفال يلعبون بالقذائف بعد تزيينها من قبل الفنان، وكأننا أمام لحظة تختزل ما يحلم به الفنان: أن تتحول أدوات الحرب من آداة قتل إلى مجرد زينة للبيوت ولعبة أطفال، لنكون أمام فنان يعكس روح شعب كسر الموت، حين طوّع أدواته وآلات قتله حتى وهو يعيش الحصار وتنهمر عليه قذائف الموت، فيأخذها الفنان ليصنع منها مادة للحياة والفرح، لنكون أمام ما يكسر الدكتاتورية مرتين: مرة حين يقاومها، ومرة حين يتفوق عليها أخلاقيا من خلال استخدامها أداة زينة بينما يستخدمها النظام آداة قتل، وهو ما يعكس الفرق بين النظام والثائرين عليه.