لم يتوقف رد فعل السوريين على إعلان زعيم دولة العراق والشام الإسلامية (داعش) "أبي بكر البغدادي" الخلافة على السخرية من الحدث، بل تعدّاه إلى إطلاق حوار فكري بين المثقفين والمفكرين حول أهداف هذه الخطوة ونتائجها، مطلقة أسئلة كبرى تبدأ مما إذا كانت الخطوة بداية "عهد إسلامي جديد" وفق البعض، ولا تنتهي عند كونها "نقطة النهاية" لـ "امبراطوريتي الإمامة والخلافة" معا.
رد فعل المثقفين الأول تجلى بتوقيع بيان ضد داعش وداعميها وقعه أكثر من 260 مثقفا سوريا وعربيا، جاء فيه "هذا الحكم الديني في جوهره مطحنة للبشر، وآلة استعباد منفصلة عن عالم العمل والإنتاج، تؤسس لحكم عنصري فائق النخبوية، فاشي في معاملته للعامة .. هذا الكيان صريح في عدائه المبدئي للحرية والنساء والجمال والتعليم الحديث، طفيلي اقتصاديا، وعدواني في الداخل والخارج. وهو تأسيس لنظام استعباد، يمتلك السكان والأرض والثروات ولا يكتفي بالحكم، ويفرض بالقوة مثالا غريبا عن السكان المحليين، ويقتلهم إن لم يوالوه"، ليحرّك البيان بدوره جدلا آخر على ضفاف الجدل الأساسي من إعلان الخلافة، وصلت حدوده حد تخوين موقعي البيان من قبل أطراف اعتبرت أن البيان يركز على إيران ويغض النظر عن دول الخليج التي تدعم داعش أيضا، في حين اعتبره البعض أنه خطوة متأخرة تدل على عجز المثقف ووقوفه على الأطلال، في حين دافع موقعو البيان عن أنفسهم، بأن البيان ليس وثيقة فكرية حتى يفصّل رأيا في كل شيء، فهو ليس أكثر من بيان لا يدعي الكمال، حيث كتب الشاعر السوري وابن مدينة حمص "علاء الدين عبد المولى" يرجى عدم المؤاخذة. أقلقنا راحتكم وأسأنا إليكم بتوقيعنا على بيان ضد داعش، يرجى أن تسامحونا على هذه الكبيرة من الكبائر ارتكبناها بحق التاريخ والثقافة والأخلاق. أرجوكم اعذرونا (طحبشنا) لكم خصوماتكم السياسية وتحالفاتكم ونزوعكم. حين عرض عليّ البيان عبر الفيسبوك، لم أفكر فيمن سيوقع عليه وفيمن لا يوقع، لم أرسم أمامي خريطة حسابات سياسة ولا معارضة ولا هم يحزنون، قرأته ووقعت عليه بصفة (مواطن سوري) وليس (شاعر سوري). لم أوقع على بيان ما إلا بصفة المواطن"، ليتبع الأمر بإصدار ما أسماه "بياني الشخصي ضد داعش" اعتبر فيه أن داعش تخدم القوى السياسية الحاكمة، لأنها تجد ضالتها في مثل هذه الرؤية القائمة على "فكرة تجهيل وتكفير المجتمع المعاصر برمّته لارتداده عن الصواب الذي تؤمن به .. لا لسواد عيون تأسيس دولة أو خلافة، بل لتسخيرها وتوظيفها في أجندتها السياسية والاقتصادية".
تسخير الدول لداعش أو مسألة الخلافة في أجندتها السياسية لم يمنع الشاعر "عبد المولى" من القول أنها ولدت أولا و أخيرا من رحم "إرث دينيّ متعصب تكفيري، يعتقد أن العالم يجب أن يبنى كما بني العالم أيام رسول الإسلام. لم تزرع داعش في الداخل لو لم يكن لها التربة الملائمة لنموها واستفحالها بسرعة. هذا إذا أردنا تأييد الرأي بأنها صناعة استخباراتية. ولكن الصناعة عثرت في الداخل الذهني الإسلامي على مواد أولية أتاحت تصنيع الداعشية، ثم ما تفتق عنه ذهنها المتخلف من استرجاع فكرة الخلافة. وكلنا نعلم أنه حين ولدت فكرة توريث إمارة المؤمنين لم يكن هناك لا مخابرات أمريكية ولا سورية ولا سعودية"، معتبرا أن "الداخل الثقافي الإسلامي مسؤول مسؤولية مباشرة عن السماح للآخرين بالعثور على ثغرات بنيوية وشروخ عميقة، تسللوا منها" حين لم يقبل بأن "يجد الحل الديمقراطي والاجتماعي لمعضلة الدولة الدينية اللامدنية، ولم يحسم صراعاته المذهبية منذ أول أمير مؤمنين (خليفة) تم اغتياله".
سهام المثقفين توّجهت أيضا نحو الإسلام السياسي الذي هيّأ الأرضية اللازمة لكل ما يحصل الآن عبر عدم اشتغاله تاريخيا للخروج من ماضويته والدخول في الحداثة، حيث قال الكاتب ياسين الحاج صالح: "ما كان ممكن تظهر الخلافة على أيد قوة إجرامية ويصير خليفة المسلمين قاتل غامض لولا أن الإسلاميين طوال عقود لعبوا بالإسلام وتلاعبوا، وزايدوا على بعضهم وغيرهم فيه. بالأخير إجا واحد قلبو قوي وجاب صولد. وتفضلوا يا إخوان ويا سلفيين ويا قرضاوي ويا حزب التحرير ويا وهابيين بالسعودية وغيرها... وبايعوا أمير المؤمنين. ويا قاعدة كمان! مو صرلكم عمر تحكوا على عظمة دولة الإسلام والخلافة الإسلامية؟ يستحق البغدادي الشكر فعلا. عم يحط نقطة النهاية لهاللعب القاتل والعاطل".
وشارك الناقد "خضر الآغا" أيضا "ياسين" في تحميل المسؤولية للإسلاميين إذ قال: "إعلان الخلافة الإسلامية ليس إعلاناً من طرف واحد: داعش فقط، إنها استجابة لكل الذين أمضوا حياتهم وحياتنا يقولون إن الإسلام هو الحل، ويزينون لنا الدنيا بالحكم الإسلامي، ويذكروننا على مدار الساعة بتلك الأيام البهية (أيام الخلافة الإسلامية)، ويتمنون أن تعود ويقنعوننا طيلة الوقت أن نعمل لأجل أن تعود، وها هي عادت، وحققت حلم الإسلاميين: من الإخوان (المعتدلين) إلى الوهابيين (المتطرفين)".
رغم سوء وكارثية ما يحصل اتفق أغلب المثقفين على أن ما يحصل اليوم هو نقطة البداية لبدء انحدار المشروع الإسلاموي في المنطقة، حيث قال الكاتب والسجين السياسي السابق "بكر صدقي": "الإخوان تذوّقوا طعم السلطة في دويلة غزة، ثم في مصر، وهم في طور الأفول في تركيا التي شهدت تجربتهم الأكثر نجاحاً. وها هم السلفيون الجهاديون يقيمون دولة الخلافة. آن أوان الانحدار، بعدما بلغوا الذروة. كان لا بد من هذه التجارب للتخلص من عالم الأوهام الإسلامي. ينطبق الأمر ذاته على امبراطورية ولاية الفقيه، وإن كانت العصبية الشيعية أبقتها عقوداً طويلة، في الوقت المستقطع. يبدو أن امبراطوريتي الإمامة والخلافة سينتهيان معاً".
المفكر "جاد الكريم الجباعي" اختار تصويب النقد نحو التيار اليساري العلماني الذي هادن الإسلامويين، محمّلا إياهم مسؤولية هذا الاستنقاع أيضا، إذ قال ساخرا: "أ
نبارك لجميع القوميين العرب والإسلاميين وحلفائهم من الماركسيين اللينينيين وسائر المقاومين والممانعين في أربع جهات الأرض بقيام الخلافة الإسلامية، التي يؤكد قيامها قابلية الزمن للانعكاس، أي العودة إلى الوراء. إلى زمن البدايات المقدسة.هذه هي الخلافة الإسلامية في مرآة الزمن المنعكس. اللهم إني أبرأ إليك من عروبة هؤلاء وإسلامهم وماركسيتهم ومقاومتهم وممانعتهم، وأبرأ إلى نفسي منك إذا كنت إلههم، فتباً لك من إله".
وبدورها "ريم تركماني" وجهت سهام نقدها نحو "سوريين لم يعرفوا يوماً معنى الدولة, وأصروا على أن الدولة تزر وازرة النظام" معتبرة أن "إعلان دولة الخلافة كان يلزم أن يسبقه تدمير للدولة التي كانت قائمة".
هذه المراجعة النقدية يرى البعض أنها تحمل دليل صحة لأنها أسقطت الكثير من الأوهام حول قدرة الإسلامويين بوعيهم الحالي على أن يكون رافعة للنضال الديمقراطي ضد الدكتاتورية، ولأنها بدأت تفتح أفق البحث عن خيارات بديلة تدعو للانشغال "بالسؤال الثقافي والفكري الذي ينبغي أن يهيمن وحده على المشهد راهنا ومستقبلاً، فمن خلاله سوف يتم نقاش المشكلات السياسية والدينية الرابضة فوق عقولنا وحراكنا. مما يحتم على هذه الجماعات أن تعيد النظر في ولاءاتها السياسية المأجورة الممولة من قوى ليس من شأنها تأمين غطاء ديمقراطي ومدني لا لمفهوم الحرية ولا الثورة. عليهم أن يعودوا إلى الانشغال أخيرا بسوريا... وسوريا وحدها" كما يقول عبد المولى، فهل يحصل هذا؟ وإن حصل فهل يسمح الوقت فعلا بإنقاذ سوريا؟