مع اندلاع الانتفاضة السورية (آذار 2011) تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى منبر إعلامي موازي لوسائل الإعلام التقليدية، إذ بات الناشطون والمعارضون ينشرون عليها كل ما يحجبه الإعلام التقليدي ( صحف، محطات، راديو..)، محوّلين صفحاتهم ومواقعهم الشخصية إلى "صحافة مواطن" تخترق جدران المؤسسات وقوانينها دون ضوابط أو حدود، ما أتاح حرية واسعة في نشر المعلومة وتداولها على نطاق واسع.
إلا أن الملفت في سياق الانتفاضة السورية أن الأمر لم يتوقف عند حدود أخبار الانتفاضة وأحداثها وجرائم النظام الحالية، بل تعداه إلى مسألة نبش التاريخ وسرد أحداثه المخبّأة التي لم تسمح ظروف القمع السابقة بنشرها وتداولها، إذ عمل الاستبداد طيلة عقود حكمه على طمس الحقائق ومحاسبة كل من يسعى لنشرها، حيث كانت تهم من نوع "وهن نفسية الأمة" و"إثارة النعرات الطائفية" و "نشر أخبار كاذبة" و "التعامل مع جهات أجنبية" بالمرصاد لكل من يتخطى حدود الاستبداد ويفضح أكاذيبه و ألاعيبه.
هذا الحاجز انكسر تدريجيا مع بدء الانتفاضة السورية، حيث بات السوريون على اختلاف منابتهم: مواطنين، معارضين، مثقفين، فنانين.. يكتبون على صفحاتهم حوادث جرت معهم أو أحداث عايشوها عن كثب تفضح ذهنية الاستبداد وشدة قمعه وجوهره، وهو ما لم يكن متاحا لهم سابقا في ظل الخوف والقمع، الأمر الذي دفعنا في "سيريا أنتولد syria untold" لرصد هذه الظاهرة، وإطلاق تساؤلات كبرى بشأنها، تتعلق بما إذا كانت هذه الأحداث المسرودة تشكل نوعا من التاريخ الذي يعاد كتابته على ضوء الأحداث الجديدة، وعما إذا كان هذا المتناثر في الفضاء الاجتماعي يشكل نوعا من مادة أولية يمكن تطويرها معرفيا وبحثيا لكتابة التاريخ الحديث كي لا يسرقه "المنتصر" مرة أخرى؟
في هذا الجزء من الملف سنسلط الضوء على عدد من تلك المسائل التي كتبها سوريون وتمكن فريق "سيريا أنتولد Syria untold" من رصدها على مدار أشهر، لنضعها بين أيدي القارئ كأمثلة يمكن الاستدلال بها لقراءة مدى إمكانية البناء عليها لاحقا لإعادة كتابة التاريخ الشفوي والرسمي لاحقا، حيث كتب السجين السابق والمعارض "محمد الصالح": "بتاريخ 25 نيسان 2014 ما يلي: "منذ سبعة وعشرون عاما وأثناء اعتقال رفيقنا عباس عباس ( أحد قياديي حزب العمل الشيوعي) ومداهمة البيت في مساكن الشرطة بحمص. خرج عنصر من الدورية ومعه جهاز صغير هو عبارة عن بطارية صغيرة وشاحن، وقال هذا جهاز اتصال مع إسرائيل .وعندما سألته بعد عام أثناء اعتقالي لماذا قلت ذلك وأنا موجود بالمكان وهذه البطارية والشاحن من تطبيقي, قال هل نقول أننا نعتقلهم بلا سبب؟ أذكر ذلك اليوم متمنيا بعض الخجل لمن يقوم بالاعتقال والخطف, والذين وجدوا أن البندقية التي يحملونها كافية لتعطيهم الشرعية والحق. الخطر الكبير هو من القوة العارية لا يغطيها أي نوع من القوانين" مسلّطا بذلك الضوء على آلية عمل البنية الأمنية للنظام في اعتماده الشائعة وسيلة لتشويه سمعه معارضيه وهو ما يزال يقوم به حتى اليوم.
وأما الشاعر السوري والسجين السابق أيضا "فرج بيرقدار" فقد كتب: "كنا كلنا أهالي معتقلين واقفين أمام محكمة أمن الدولة العليا ( أخت أو أم أو زوجة معتقل) وكان ذلك بالتسعينات أثناء محاكمة شباب حزب العمل الشيوعي، ومع وصول سيارة السجن التي تقل المعتقلين من سجن صيدنايا كالعادة نركض باتجاه السيارة لنرى شبابنا عن قرب، وعند نزولهم طبعا وهم مقيدين بسلاسل حديدية كنا نلوح بأيدينا فقط عندما يشاهدوننا. فجأة صاح صوت بالقرب مني ( يمه ياتركي انا هون ) نظرت إليها وقلت: (الله يخليك ياخالة لاتصيحي هلق ماعاد يخلونا نشوفن بس تركي بيشوفك بدون صياح). قالت ودمعتها عم تكوي عيونها:(يمه تركي أعمى). زهرة الوادي. نعم يا زهرة الوادي.. تركي مقداد صديقي ضرير البصر لا البصيرة. حين سأله رئيس محكمة أمن الدولة عن أمر يحتاج إلى البصر رد عليه تركي: حضرتك ما ملاحظ إني أعمى؟! فتبلجم رئيس المحكمة ثم قال: كيف يعتقلونك وأنت أعمى، فقال له: إسألهم أو اسأل حالك" لنكون أمام حادثة تسجل تاريخ طويل من مقاومة السوريين لهذا النظام من جهة، ولمدى عسف وظلم هذا النظام من جهة ثانية، إضافة لما يطرحه الأمر من طموح بإعادة كتابة أسماء الضحايا المهملين لوضعهم في كتاب التاريخ من جهة ثالثة.
ونفس الأمر يسلّط عليه الضوء تقريبا الشاعر "دارا عبد الله" إذ يقول: "بعد أشهر من انتفاضة عام 2004 في مدينة القامشلي ضد السلطة البعثيَّة، كنتُ في الصف الثامن الإعدادي، دخلت المنزل فرأيت فتاة جالسة مع أمّي وأبي والمرحوم اسماعيل عمر، تشربُ الشاي وتحكي عن المعتقلين والمفقودين وعدد القتلى وتوزُّع الجيش في المدينة، كانت توثّق الانتهاكات التي حصلت ضدّ الناس بعد تلك المجزرة. دخلت تلك الفتاة مدينة القامشلي الغامضة بشجاعة وثقة، في الوقت الذي كانت فيه كلمة “كردي” تهمة كاملة. كانت تقول “انتفاضة” و”شهداء” و”استبداد” و”ديمقراطيّة” و”حريّة”. بدا الأمرُ غريباً لديّ. تلك الفتاة كانت رزان زيتونة"، حيث نرى هنا أن "رزان" المخطوفة اليوم كانت تنشط في مقاومة النظام منذ زمن طويل، وأن التعاون العربي الكردي كان قائما لفضح هذا النظام المستبد من زمن، ناهيك عما يطرحه الأمر من تساؤل بشأن انتفاضة الكرد التي لا يعرف عنها السوريون إلا القليل، فهل هذا طرف خيط لإعادة توثيق هذا التاريخ؟
وإذا كانت الروايات السابقة تركز على التاريخ الرسمي ( أحزاب، شخصيات معارضة..) للمقاومة ضد النظام، فإنّ ثمّة نوع آخر من المكتوب اليوم، يسلّط الضوء على التاريخ الشفوي للبشر في كيفية تلقيهم ظلم المستبد والتحايل عليه، إذ كتب أحد الناشطين الذي يختبئ خلف اسم "أبو حجر"، قائلا: " بآخر استفتاء لحافظ الأسد ( انتو أكبر قدر ) وصل خبر للمخابرات بمدينة سلمية. إنو في واحد حاطط صورة حافظ عـ الطنبر تبعو. بعد متابعة و تحري مسكوه. بالفعل كان حاطط الصورة عـ وجه الكديش و باخش الصورة من الطرفين و منزلهاا بأدنين الكديش و مبينين كأنهم أدنين حافظ. المخابرات جن جنونن و بلشوا فيه القتل. وهوي عم ياكل قتل قلن: يا جماعة والله فهمتوني غلط. هالكديش مو أي كديش! هادا أغلى من ولادي و الله بحبو متل السيد الرئيس. و لذلك ما حبيت حدا غيرو يتشرف بحمل الصورة"، لنكون أمام حالة تكاد تصل الملهاة في كيفية اختراع السوريين "تبريرات" تبعد عنهم شبح الظلم و الدكتاتورية للنجاة من العقاب.
واختار الشاعر "مروان علي" تسليط الضوء على حادثة شعبية، تعكس علاقة الرياضة بالسلطة والقوة في عهد الدكتاتورية، إذ قال: " في ملعب القامشلي حضرت مباراة بين فريق جبلة وفريق الجهاد، اعتدى لاعب من فريق الجبلة على حارس المرمى ، قام الحكم بطرده .. هنا ركض مدرب فريق جبلة وسحب الفرد( المسدس ) .. اطلق رصاصة تحذيرية في الهواء وركض خلف الحكم .. الذي رمى صفارته وأطلق العنان لقدميه".
الحالات السابقة تشكل نقطة يمكن الانطلاق منها لنقاش عما إذا كان ما سبق يشكل نوعا من إعادة كتابة التاريخ السوري على ضوء الثورة، أم أنّ الأمر ليس أكثر من "فشة خلق فيسبوكية"؟
حول هذا الأمر، يقول الشاعر السوري "دارا عبد الله" لموقعنا "سيريا أنتولد Syria untold" أن "الرواية التاريخية تختلف من لحظة تاريخية إلى أخرى حسب علاقات السلطة والاقتصاد والقيم السائدة في تلك اللحظة. مثلا في الثمانيات كان التعاطف مع الإخوان مختلف عن التعاطف معهم اليوم وهذا يعني أنه بالتأكيد سيعاد النظر بالكثير من الحوادث التاريخية. ثمة حوادث تاريخية كنّا نراها سلبية قد نراها اليوم إيجابية أو العكس، وهذا يعني أن الثورة السورية فتحت باب إعادة كتابة وتقويم التاريخ السوري من جديد"، ليبقى السؤال عن كيفية تحويل هذا المتناثر افتراضيا إلى كتابة جادة هو موضوع القسم الثاني من هذا الملف.