مذ انفجرت الانتفاضة السورية في الخامس عشر من آذار (2011) أطلّت الطائفية في سوريا برأسها الخجول بداية، متوارية تحت خطاب الثوار السلميين "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد" و "لا سلفية ولا إخوان الثورة ثورة شبان" بمواجهة الشعارات التي أطلقها النظام السوري "علوية عالتابوت ومسيحية عابيروت" لوسم الانتفاضة بالسلفية والدفع نحو الحرب الأهلية، ليأتي لاحقا قمع السلطة وينهي "وجود هؤلاء ليبقى شباب أكثر بساطة، لم يستطع الاستمرار في مواجهة ذاك الخطاب، بل بعضه انخرط في الأسلمة كرد فعل معاكس" كما يقول المفكر السوري/ الفلسطيني "سلامة كيلة" لتبدأ "المسألة الطائفية" في سوريا تتقدم رويدا رويدا نحو مقدمة الأحداث، خاصة بعد أن تمازجت الثورة بالحرب الأهلية والتطرف والتدخلات الخارجية.
انفجار "المسألة الطائفية" في بلد تعلّم على مدى نصف قرن أن يواري "طائفيته" بفعل عنف السلطة التي حكمت على معارضيها بالسجن عقودا بتهمة "بث النعرات الطائفية" وتضخم البعد الوحدوي في سوريا التي طالما عرفت بـ "قلب العروبة النابض"، جاء مفاجئا، فأربك الجميع وتعددت التحليلات والقراءات، وكأني بالمسألة الطائفية في سوريا تنتقل من التعتيم المتعمّد إلى الضوء الكاشف، وهو أمر حسن في بعض جوانبه لأنه يضع المسألة على طاولة التشريح النقدي والمعرفي بعد أن غاب عنها طويلا أو لم يأخذ حقه من النقد والنقاش على الأقل، ولكنه خطر أيضا إذ يصوّر الأمر وكأنّ ما يجري في سوريا ليس إلّا صراع طائفي على السلطة، مقصيا الصراع الطبقي والريفي/ المديني والسياسي إلى الخلف، ومستبدلا "ثورة الكرامة" وحقوق المواطنين بـ "حقوق الطوائف وحماية الأقليات"، خدمة لأجندة سلطوية وخارجية تهدف لاستغلال الطوائف وقودا لها في معركة المصالح.
هذا كله أطلق جدالا وحوارات كثيرة بين السوريين، نخبة ومجتمعا، إذ لم يبق "محرّما" لم يتم تناوله، بدءا من علاقة السلطة بالطائفية إلى العلاقة بين الدولة والطائفية، إلى علاقة الطوائف السورية فيما بينها، إلى تاريخ وصناعة الطائفية، إلى "العلوية السياسية" التي اكتشفها بعض المفكرين السوريين اليوم! وكأن السوريين يكتشفون بلدهم ويبحثون عنه في أتون ثورتهم التي أرادوها طريقا نحو وطن حر مدني علماني، فإذا بهم يقفون بين يدي السراب.
من بين هذه الحوارات جرى سجال بين المفكر السوري "سلامة كيلة" والكاتب السوري "فكتريوس شمس"، حيث نشر كيلة مقالا في صحيفة “العربي الجديد” تحت عنوان "عن الطائفية في سوريا" فنّد فيه ادعاء أن يكون النظام السوري طائفيا، معتبرا أن "السلطة ليست طائفية" وأن "الصراع في سورية ليس بين أغلبية (تصنف أنها سنية) وأقلية (هي العلوية)، بل هو صراع الشعب (بكل تكوينه) ضد السلطة الناهبة والمستبدة" ليرد فكتريوس بمقال حمل عنوان " ردا على سلامة كيلة: النظام عرّاب الطائفية وصانعها" في موقع "جنوبية"، ليعود ويرد سلامة عليهبمقال أخر في نفس الموقع.
في مشروع "سيريا أنتولد Syria untold" وأوبن ديموكراسي المشترك, “الانتفاضة: نظرة نقدية”, أردنا أن نوّسع ونفتح هذا النقاش على مداه وبتفصيل بحيث يتجاوز صيغة: هل النظام السوري طائفي أم لا؟ نحو بعد أعم وأشمل، يبدأ من البحث في الجذور عما تعنيه الطائفية أصلا؟ ومتى نقول عن نظام ما أنه طائفي؟ ليصار في إطار ضبط المفاهيم هذا لتحديد ما إذا كان النظام السوري طائفيا أم لا، مع مقاربة مسألة العلويين والسلطة، والدولة والطائفية والعلوية السياسية وصولا نحو معالجة كل المتن والهوامش المتفرعة عنه، سعيا لتحقيق رؤية متكاملة عبر نقد ونقد مضاد يساعدنا على التشريح والتفكيك والبناء من جديد.
وسعيا لتحقيق ذلك قمنا بتوجيه أسئلة مجددا إلى كل من سلامة كيلة وفكتريوس شمس، على أن نضع تلك الأسئلة بين يدي طرف ثالث ليقرؤها من زاوية أخرى، ليصار إلى تقليب الأمر على أوجه متعددة سعيا لبناء معرفة بالطائفية لا ترتهن إلا لشروط المعرفة العلمية بعيدا عن التوظيف الطوائفي أو السلطوي أو الدولي الساعي لبناء مصالحه على دم السوريين المسفوك على مذابح الحرية.