سلامة كيلة وفكتريوس شمس: هل النظام السوري طائفي؟ (2)


12 تشرين الثاني 2014

سلامة كيلة

مفكر سوري/فلسطيني ولد في مدينة بيرزيت بفلسطين عام 1955. عمل في صفوف المقاومة الفلسطينية واليسار العربي. وسجن ثمانية سنوات في سجون النظام السوري. له أكثر من عشرين كتاب منها: الثورة السورية واقعها صيرورتها وافاقها عن دار أطلس و "مصائر الشمولية" عن دار الريس و "ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة السورية" عن دار نون

نواصل في "حكاية ما انحكت" و "اوبن ديموكراسي" في هذا الجزء حوارنا مع المفكر سلامة كيلة و الكاتب فكتريوس شمس حول المسألة الطائفية.

محمد ديبو: سلامة كيلة، هل يمكننا اعتبار نظام الأسد، أو العلويين كمجموعة، طائفيين؟

سلامة كيلة: تناول الأسباب التي تجعل دكتاتور يختار الفئة التي يعتمد عليها في الحكم يفترض أن ينطلق من فهم سسيولوجي بالأساس، وليس من منظور طائفي. الفارق هنا يكمن في أنّ كل منظور ديني أو طائفي ينطلق من الشكل في تحديد طبيعة الآخر، لهذا حين يتناول نظام معين يركّز على طائفة الرئيس والفئة التي تحيط به، ويحكم على السلطة من خلال ذلك، وبهذا تكون السلطة طائفية لأنّ منظوره طائفياً وليس لأنها كذلك في الواقع. السؤال هو ما هي الأسس التي تجعل الدكتاتور يختار معاونيه، وبالتالي لماذا يحيط ذاته بأفراد من محيطه المناطقي؟

أولاً حافظ الأسد كان جزءاً من حزب قومي، وكان ذلك الوعي هو الذي يحكمه قبل الوصول إلى السلطة، وبهذا لا يمكن أن نقول بأنه كان طائفياً، إلا إذا انطلقنا من مفاهيم أصولية إسلامية تتحدث عن "الباطنية" (أي أنه كان يضمر غير ما يعلن)، وهذا أمر خرافي. وثانياً أن الصراع في حزب البعث كان بين "علويين" (أي صلاح جديد وحافظ الأسد). وثالثاً أن هذا الصراع قسم السلطة إلى فئات مع كل منهما، حتى على المستوى العلوي، وظهر ذلك في وقوف الضباط العلويين من منطقة طرطوس مع صلاح جديد ومن جبلة مع حافظ الأسد. ورابعاً كانت قوة مصطفى طلاس أو عبدالحليم خدام في زمن حافظ الأسد موازية لقوة علي دوبا وعلي حيدر وكل النخبة "العلوية" في السلطة.

هنا يجب أن ندخل التحليل السسيولوجي لكي نفهم الآليات التي يشكّل فيها دكتاتور ريفي سلطته. وسنلاحظ هنا أن كل الدكتاتوريين من هذا النمط كانوا يعتمدون على أفراد من المنطقة التي ينتمون إليها، أي من البيئة التي نشؤوا فيها.  ولا شك في أنّ البيئة الريفية تؤسس لترابط يقوم على أساس المنطقة بالأساس، قبل أي شيء آخر. هذا هو "الوعي الريفي" الذي يربط الثقة بالترابط المناطقي. وهذا أمر طبيعي كان الريف فيه منعزلاً، وكما قال إنجلز مرة بأن الفلاح يرى أن قريته هي العالم، هي كل العالم. وهو أمر يجعله في خشية من العالم فيبقى محافظاً على الترابط المناطقي أينّما حل. وبالتالي يصبح ابن الحي أو القرية هو مصدر الثقة الذي يمكن الاعتماد عليه. لهذا يعتمد الدكتاتور على هؤلاء القادمين من بيئته.

سنلاحظ بأن الصراعات في الجيش قبل استلام حافظ الأسد السلطة تمحورت حول "كتل مناطقية". لهذا جرت تصفية الضباط المدينيين بعد 8آذار، ثم تصفية ضباط مدينيين ومن ريف دمشق وحماة مع إبعاد الناصريين في تموز سنة 1963، ثم الضباط الدروز بعد انقلاب سليم حاطوم سنة 1967، ومن ثم تفكك الضباط العلويين بين صلاح جديد وحافظ الأسد، الذي اعتمد على الانقسام بين ضباط طرطوس وضباط جبلة. وهو الوضع الذي كرّس سيطرة أكبر للضباط العلويين، خصوصاً وأنّ عددهم كان أكبر في الجيش نتيجة فقر المنطقة، الذي كان يجعل الجيش ملجأ سواء فيما يتعلق بالضباط أو في الجنود.

على ضوء كل ذلك يكون الاعتماد على ضباط علويين أمراً يتعلق بالثقة من منظور مناطقي وليس طائفياً، رغم أن الصراع الطائفي الذي خاضته جماعة الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن العشرين، عزَّز من ميل ما طائفي، تبلور في سرايا الدفاع بزعامة رفعت الأسد، لكن الحالة أُنهيت بعد الخلاف الذي حدث على ضوء مرض حافظ الأسد سنة 1984. وكذلك قمعت جمعية المرتضى التي شكلها جميل الأسد على أساس طائفي. لكن ولا شك نشأ شعور ما طائفي في بنى السلطة، لكنه لم يهيمن، بل جرى استغلاله فيما بعد من قبل السلطة ذاتها.

أما حول العلويين ولماذا هم غير طائفيين رغم وقوفهم خلف السلطة، فلأن الأمر لا يتعلّق بمعتقدات وحدتهم مع السلطة، ولم يكونوا مع السلطة قبل الثورة، على العكس من ذلك عانوا من الشبيحة ومن السيطرة على أراضيهم ومن الفقر وغياب الخدمات والتهميش، بحيث كان الساحل من أفقر مناطق سورية. لكن ما جرى سنوات 1980/ 1982 من وحشية ضد حماة أُلصق بالعلويين، وبالتالي عمّمت السلطة الشعور بأنّ الآخر يستهدفهم نتيجة ما جرى. وهو الأمر الذي خلق حالة من الخوف من أنّ التغيير سوف يأتي بالإسلاميين إلى السلطة، ومن ثم سينتقمون منهم هم. وعموماً فإنّ مجمل الأقليات الدينية والطائفية تخوّفت من وصول بديل أصولي إسلامي كما تخوّف العلويون، واندمج بعضها بالسلطة كذلك، مثل قطاع كبير من المسيحيين. ولا شك في أنّ السلطة لعبت من اللحظة الأولى على هذا الأمر، وساعدتها بعض أطراف المعارضة، مثل الإخوان المسلمين، والمندسين على المعارضة وبعض المعارضين الطائفيين، وكذلك بعض الدول الإقليمية مثل السعودية، والإعلام الفضائي عموماً.

العلويون لا يعرفون معتقداتهم في الغالب، وبالتالي ليس لديهم "عقيدة" يفرضونها على المجتمع، وفقرهم هو الذي دفعهم بأعداد كبيرة إلى الجيش منذ الاحتلال الفرنسي. ومن ثم لم تقدّم السلطة لهم ما يحسّن وضعهم لكي يتمسّكوا بها. لكن الثقافة العامة منذ زمن باتت تربط النظام بالعلويين، بما في ذلك مجازر حماة، رغم أن النسبة الأعلى من المعتقلين السياسيين كانت من الساحل. في هذه الوضعية لماذا يلتفون حول السلطة؟ هل هناك غير الخوف من الربط الذي حصل بينهم وبين السلطة ما يجعلهم يخافون من التغيير،  ولمصلحة قوى تنظر إليهم كسلطة، والقوى التي تعتبر أساسية في المعارضة تنظر إليهم بمنظور طائفي؟ بالتالي إن وقوفهم خلف السلطة ليس نابعاً من اعتبارات طائفية كون لا معتقدات طائفية تجمعهم بالسلطة، بل كون الآخر اعتبر أنهم السلطة، واعتبر أن السلطة هي سلطة طائفة وقائمة على أسس طائفية.

إن موجة انتشار الأصولية الإسلامية وتعميم الأصولية، والتركيز على أحقية سلطة الإسلاميين، وما جرى في العراق من صراع طائفي، فرض أن ينتشر الخوف لدى قطاعات مجتمعية، من الأقليات ومن بعض "الأغلبية". وهذا الجو هو الذي جعل النقطة المركزية في إستراتيجية السلطة هي كيف تضخم هذا "البعبع"، وكيف تُظهر الثورة كحراك أصولي يهدف إلى السيطرة على السلطة (والانتقام من العلويين). ولقد نجحت في ذلك ليس بفعل طائفية العلويين بل بفعل أصولية وسلفية بعض أطراف المعارضة التي ظهرت كقيادة للثورة من خلال تأثير الإعلام الخليجي، وحتى الغربي. وهو الأمر الذي أربك العلويين في المرحلة الأولى وجعلهم يترددون في الانخراط في الثورة، ومن ثم مع تصاعد تشوّه الثورة دفعهم للتماسك خلف السلطة، أو للسير بما تريد دون سؤال.

 

محمد ديبو: فيكتوريوس شمس، تقول في جدالك مع المفكر سلامة كيلة أن النظام السوري هو نظام طائفي في العمق، هل لك أن تبيّن لنا هذا الأمر، بمعنى متى نقول عن نظام ما أنه طائفي وليس سلطوي فحسب؟

فكتريوس شمس: من حيث المبدأ، كل نظام، هو نظام سلطوي. النظام الرأسمالي هو نظام حكم الطبقات الأكثر ثراء، أي نظام تسلّطها على من هم دونها، والعكس بالنسبة للنظام الإشتراكي. السلطوية شرط من شروط وجود السلطة (النظام). أمّا عن مسألة الفصل بين أن يكون النظام "طائفي وليس سلطوي" فهو أمر مستحيل نظرياً، لأن الطائفية هي "النظام الذي يؤمّن للطبقات المسيطرة ديمومة سيطرتها في نمط الإنتاج الكولونيالي"، انتفاء الطائفية، يعني انتفاء سلطة الطبقات المسيطرة في بلدان كولونيالية متعدّدة الطوائف. بهذا يكون من المستحيل في نمط الإنتاج الكولونيالي فصل السلطوية عن الطائفية، فوجود هذه شرط لتلك، والعكس صحيح.

أما عن طائفية النظام السوري، فيجب التمييز بين ممارسات طائفية تمارسها السلطة التي تستحكم فيها أقلية طائفية ما، كما هو حاصل في سوريا، وبين نظام طائفي مُمأسس كما هو حاصل في لبنان.

في الحالة الأولى تبدو الممارسات جزء من سيرورة طويلة ومعقّدة ستؤدّي بالضرورة إلى تطييف المجتمع بعامّة وهو ما جاءت الحرب لتفضحه. بينما في الثانية، لا تستطيع طائفة أن تستأثر وحدها بالسلطة بشكل مطلق، فـ "الشراكة" والمحاصصة المقوّننة هي الأساس.

بمعنى، أن الطائفية في سوريا لم تُكرّس بعد بنصوص دستورية على غرار النموذج اللبناني. لكن ممارسات النظام السوري تعبّر عن السير سريعاً بهذا الإتّجاه، كالإستئثار والسيطرة الواضحين على المفاصل الأمنية والمالية في البلاد. مفيد هنا العودة لكتاب عزمي بشارة "سورية: درب الآلام نحو الحرية.. محاولة في التاريخ الراهن"، إذ يقول مثلاً في الصفحة (318) وبفقرة تحت عنوان: "مسارب الطائفية خلال الثورة": "إن مقولة "الفتنة الطائفية"، وإن لم تفتقر إلى روافد ومغذيات مجتمعية، هي جزء من خطاب سياسي استحضره النظام في الأزمات التي تواجهه، ولم يتردّد الرئيس بشار الأسد في خطاب 30 آذار/ مارس 2011 في وصم الحركة الإحتجاجية بمصطلحات "الفتنة الطائفية" التي تهدف إلى ضرب الاستقرار وإشاعة الفوضى. وبدا واضحاً في خطابه أن النظام معني بالتخويف من فتنة طائفية إلى درجة الاستفزاز كي يثبت أن الدولة السلطوية وحدها تحافظ على وحدة المجتمع والدولة في سوريا، وأن الاستجابة للمطالب الديمقراطية سوف تؤدّي إلى الفتنة والانقسام. لكننا لا نستثني احتمال أن النظام، ونتيجة معرفته بسياساته التي حوّلت الطائفة العلوية إلى نواة النظام الصلبة، شعر بأن الثورة هي ردّة فعل على مركزة الثروة والسلطة، وكان واعياً أنّها لا بد من أن تحمل شحنات طائفية ضده أو حتى ضد الطائفة العلوية".

هنا لا بد من توضيح مسألة مهمّة (إذا اعتبرنا أنّ الصراع كما يريده النظام، هو صراع سنّي – علوي)، وهي أن هنالك علويون مع الثورة، وسُنّة مع النظام. لكن نسبهم في الجهتين ضئيلة ولا يُعتد بها لتعميمها، أوالإستشهاد بها كدليل على لا طائفية النظام.

باختصار كلّي نقول: ميّز النظام بين مواطن عادي، ومواطن له امتيازات من طائفة أخرى طوال فترة حكمه، وهذه واحدة من أسباب الاحتقان الشعبي الذي أدّى لما وصلت إليه حال البلاد اليوم. مازالت الأحداث تتصاعد وتتفاعل ولم تأخذ شكلها النهائي بعد، هذا ما دعانا للقول أنّه: "نظام طائفي في العمق"، والفكرة لم تتغيّر بعد.

محمد ديبو: فيكتوريوس، في كتابات سابقة وصفت عمليات تغيير قسرية في التوزع البشري في سوريا كدليل على طائفية النظام.كيف تقرأ وجود نسبة كبيرة من النازحين السنة في طرطوس واللاذقية؟ وبنفس الوقت ماذا عن المكونات السنية الأخرى التي تقف إلى جانب النظام؟

فكتريوس شمس: التهجير القسري الذي يحصل في بعض المدن كحمص وبعض المناطق الحدودية مع لبنان، يبدو وكأنّه تحسّباً لأي سيناريو تقسيم على أساس طائفي في المنطقة، لهذا يعمل النظام على تغيير ديموغرافية بعض المناطق في ظل حديث عن عمليات توطين وتجنيس لكتل بشرية ذات لون طائفي واحد قادمة من سوريا ومن خارجها. هذا يعني أن النظام يعمل على السيطرة السياسية على هذه المناطق من خلال إيجاد أغلبية من لون طائفي واحد فيها. الأساس هنا هو الهيمنة السياسية، بمعنى أنّها لن تكون مناطق صافية 100% قد يبدو هذا الصفاء أمراً مستحيلاً، فحتى "اسرائيل" ورغم كل حروبها على الشعب الفلسطيني لم تستطع اقتلاع الفلسطينيين بشكل مطلق من أراضيهم، وهذا ينطبق على النظام السوري وغيره كما حصل في لبنان طوال الحرب الأهلية أيضاً. هنا يجب أن نفصل بين لجوء النازحين الذين لا يبتغون أكثر من الحفاظ على حياتهم بعد تدمير مناطقهم وانعدام الأمن فيها، أي أنّهم لا يطمحون للسيطرة السياسية على المناطق التي نزحوا إليها. وبين احتلال النظام لمناطق أخرى يطمح لأن تكون جزء من كانتون طائفي في المستقبل. عدا عن ذلك، فإن النظام مازال يمارس مهامه في الدولة، وعليه، يطرح السؤال نفسه تلقائياً: ماذا قدّمت الدولة لمن نزحوا إلى المدن الساحلية؟، وهي بالمناسبة مدن مختلطة تاريخياً، بعكس أرياف هذه المدن الذي يعتبر جزء كبير منها مسكون من طوائف بعينها.

أمّا بالنسبة للإسلام، فكل بحسب مصالحه وموقعه الطبقي. الإسلام لا يُشبه بعضه. إسلام "الإخوان المسلمين" شيء، وإسلام النظام شيء آخر تماماً. إسلام "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش"، أو "جبهة النصرة" ليس كإسلام المتصوفة على اختلاف تياراتهم. "حركة حماس" كانت قريبة جدّاً من النظام السوري، لكنها ابتعدت عنه بعد الثورة عليه عندما طالبها بمساعدته في قمع الإحتجاجات. "القبيسيات" لهُنّ مؤسّسات تجارية ومعاهد ومدارس ومؤسّسات تربوية تلقى كل التسهيل والدعم من النظام، أي أن المصالح متبادلة. النظام بحاجة لأغطية دينية (كديكور) لإثبات عدم طائفيته مع أنّه يدّعي العلمانية، و "القبيسيات" مستعدّات للعب دور الغطاء تماماً كما إسلام النظام الممثّل بمؤسّسات الإفتاء، والمعاهد الشرعية التابعة له.

أمّا "الإسلام الشامي" فهو إسلام البرجوازية المستفيدة من تحالفها مع النظام (تحالف العسكر والمال)، هؤلاء قلّة، لكنهم يملكون الكثير، وقد كانوا جزءاً من عملية سرقة مقدّرات الشعب السوري. يُشار هنا إلى أن عدد كبير منهم نقل أعماله من دمشق لدول أخرى قبل الثورة بكثير بسبب محاولات إجبارهم على الشراكة مع رجال أمن.

من كل ما سبق أردنا القول أن المسالة بالنسبة للبرجوازية الشامية أو غيرها ليست مسألة قناعات بطائفية النظام أو لا طائفيته، بل مسألة مصالح متبادلة في تثبيت سلطة النظام من جهة، وحفاظ هؤلاء على مصالحهم وأموالهم، والطائفية ليست إلا نمط حكم طبقي، إن أمّنت لهم مصالحهم فلماذا يرفضونها. أي أن "إسلام البرجوازية الشامية" لا يعنيه شكل الحكم؛ إلا بالقدر الذي يضمن له استمرار عملية مراكمته للأموال.

 

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد