السلطة واحتكار الطائفية في سوريا


27 تشرين الثاني 2014

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

كان احتكار الطائفية في سوريا أحد الأساليب التي استخدمتها السلطة السورية طيلة سنوات حكمها، لبسط سيطرتها على سوريا، حيث منع النظام التكلّم بالطائفية تحت ستار الوطنية والقومية والعلمانية التي رفعها شعارا يخفي كل الممارسات السلطوية التي كانت تتم بالخفاء وبتوجيه من الأجهزة الأمنية السورية.

النظام السوري لم يخترع الطائفية التي كانت موجودة في المجتمع قبل حكم البعث واستمرت في ظله، لأن سوريا على طول تاريخها، أي منذ تكوّنها بشكلها الحديث بين عامي 1920-1946، لم تحظى بسلطة وطنية تضع سياسات وطنية تعمل على تذويب الفوارق الطائفية والمذهبية الإثنية لصالح وطنية سورية تلغي الانتماءات مادون الوطنية، الأمر الذي أوجد في سورية حالة من الطائفية المستترة، خاصة أن النخب والأحزاب اليسارية والعلمانية في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، لم تولي المسألة الطائفية حقها من النقاش، حيث تم القفز فوقها، معتبرين أنها أمر يزول من تلقاء نفسه، عن طريق تجاهلها.

هذا الأمر أدى إلى وجود حالة يمكن تسميتها "الطائفية المستترة في سوريا" فلا هي ظاهرة كمشكلة واضحة يمكن معاينتها والبحث بها، لإحجام الجميع عن نقاشها والاعتراف بها، ولا هي متجاوزة باتجاه حالة وطنية أرقى، وهذا ما جعل الأرضية صالحة لنظام البعث للفوز بورقة ستساعده على حكم سوريا لسنوات طويلة، إلى جانب أوراق أخرى، حيث عمدت سلطة البعث إلى منع الحديث بالطائفية بأي شكل من الأشكال في الإعلام والتلفزيون والمجال العام، مقابل وجود تقسيمات شبه معلنة في مناصب الدولة والجيش على أساس طائفي، إنما دون قوننة أو نص يحكمها، حيث كانت تاريخيا رئاسة الوزراء من نصيب السنة في سوريا وأربع وزارات للعلويين أهمها وزارة الإعلام، مع تخصيص وزارات للطوائف الأخرى. وفي الجيش حكمت المناصب القيادية في الألوية والفرق تقسيمات طائفية يعرفها جميع السوريين، فإن كانت الرئاسة من نصيب السنة فإن النائب سيكون علويا مع وجود منصب ثالث للمسيحيين أو الدروز أو الطوائف الأخرى أو بالعكس، مع بقاء الغلبة للعلويين في مجال الأمن والمخابرات.

هذا التقسيم الوظائفي على أساس طائفي جعل من الطائفية حاضرة في السر في سوريا، حيث منع النظام الحديث بهذا الأمر تحت أي مسمى، مع وجود قوانين تحاكم أي متحدث بالطائفية، وقد حوكم العديد من المعارضين السوريين الذين قضوا سنوات طويلة في السجن بتهم "إثارة النعرات الطائفية"، بهدف تخويف الناس من الحديث بالطائفية، وتسهيل احتكار السلطة لها.

مقابل ذلك عمدت الأجهزة الأمنية السورية إلى اتباع سياسات مذهبية وطائفية وإثنية للتفرقة بين المواطنين ومنع اندماجهم، حيث شجعت بشكل صامت إقامة مناطق ذات لون طائفي واحد، أو اثني واحد، حيث نجد مدينة بانياس الآن مقسومة بين شق سني وآخر علوي، و في مدينة القطيفة نجد أن منطقة الضباط التي يتبع أغلبها للعلويين محاطة بسور يفصلها عن قسم المدينة ذات الغالبية السنية، إضافة إلى وجود أحياء بأكملها محسوبة على طائفة ما، فسنجد مدينة جرمانا تحسب للدروز والمسيحيين، و منطقة المزة ستة وثمانين للعلويين و دوما وحرستا للسنة رغم أن تلك المناطق ليست صافية بالمطلق إلا أنها ترسخت في الوعي الشعبي بهذا الشكل، مما أدى إلى بقاء الحالة الاجتماعية السورية في وضع "حسن جوار طائفي" وفق تعبير المفكر القومي ياسين الحافظ، أو "تشكل طائفي للمجتمع وإشغال النظام الموقع الحصري لضبط التفاعل بين جماعات تقل التفاعلات المستقلة في ما بينها"، كما يقول الكاتب ياسين الحاج صالح. وإن كانت السلطة لم تشجع الحالة السابقة كما يرى البعض أي أنها نشأت بفعل طائفية المجتمع، فمما لاشك فيه أنها تبقى مسؤولة عن الأمر لعدم قيامها بواجبها في منع تشكل ظواهر طائفية واضحة، وعدم العمل على تحقيق الاندماج الاجتماعي اللازم.

سياسة احتكار الطائفية هذه بدأت في سوريا بشكل أكثر وضوحا بعد خروج السلطة منتصرة من أحداث الثمانيات حيث نشب آنذاك الصراع المسلح بين الإخوان المسلمين وهم حزب إسلامي طائفي يحاول تمثيل السنة في سوريا والعالم العربي، وبين النظام الذي ينظر له الإخوان على أنه نظام علوي، حيث وفّر الإخوان للنظام ذريعة على طبق من ذهب، حين رفعوا شعار "إسقاط النظام العلوي" في ثمانيات القرن الماضي، لنكون أمام أوّل حالة طائفية تعلن عن نفسها بهذا الشكل بعد استقلال سوريا، وهي الفرصة التي سيستغلها نظام الأسد فيما بعد لسحق أي حديث بالطائفية تحت شعارات علمانية زائفة لبناء سياسة احتكار الطائفية التي حكم بها، وذلك بعد أن شدّ الأقليات الدينية باتجاهه التي هددها صعود الإخوان، وخاصة الطائفة العلوية التي عمل النظام على إلحاقها به بشكل كلي تقريبا، حيث نقلت آني ولورانت شاربي في كتابهما "سياسة وأقليات في الشرق الأدنى - الأسباب المؤدية للانفجار": "في آب/اغسطس 1980 اختار حافظ الأسد الاحتفال برمضان في القرداحة، مسقط رأسه، بدلا من جامع بني أمية الكبير في دمشق، كما كان يجري التقليد وجمع إليه بهذه المناسبة أهم زعماء الطائفة العلوية الدينين، وأوصاهم برص الصفوف لمواجهة الأزمة، حاضا إياهم على تحديث العدة الدينية لإحكام قبضتها على الطائفة وتثبيت دعائم الروابط المنحلة"، لنكون أمام أول حالة علنية تثبت لجوء السلطة السورية بوضوح إلى الطائفية لمواجهة الإخوان الساعين إلى تطييف الصراع في سوريا.

بعد ثمانيات القرن الماضي، سيزداد حضور الطائفية في سوريا بشكلها المستتر هذا، أي صمت مطلق وتآخي ظاهري مع طائفية كامنة في المجتمع، مقابل حضور مستتر لها في أجهزة الدولة الظاهرة ( مناصب الجيش القيادية ومجلس الوزارء) وحضور طاغي في أجهزة الدولة السورية السرية كالأمن و المخابرات، وقد عبر الشاعر السوري فرج بيرقدار الذي كان عضوا في اللجنة المركزية لحزب العمل الشيوعي ( وهو حزب يساري معارض منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد دخلت أغلب كوادره السجن) وسجن أعواما طوال في سجن الأسد عن ذلك، حيث كتب: "حين اعتقِلتُ في المرة الأولى من قبل المخابرات الجوية عام 1978 لم أتعرَّض لشتائم طائفية.. في آخر اعتقال لي عام 1987 كانت الشتائم الطائفية لي وللآخرين سمة سائدة".

وقد تجلّت سياسة السلطة هذه في عدد من المحطات، منها حين سجنت المعارض البارز "ميشيل كيلو" في عام 2006 بسبب كتابته مقال تحت عنوان " نعوات سورية" جاء فيه "ومع أن الطوائف ضرب من بنية تحتية للوعي العام في سورية، فإن أحدا لا يجرؤ علي الحديث عنها، ليس لاعتقاد الناس أنها غير موجودة، بل خوفا من سلطة تدعي أنها أقامت وحدة وطنية صهرت الشعب في بوتقة ألغت جميع أنواع الفروق العقائدية والإثنية، وجعلت أي حديث عن طوائف خيانة وطنية مثبتة تستحق العقاب" معبّرا بذلك عن الوضع الذي وصلته الطائفية في سوريا، الأمر الذي دفع السلطات لمحاكمته وسجنه، رغم معرفتها يقين المعرفة أنّ ميشيل ليس طائفيا ولا يريد "إثارة النعرات الطائفية"، إلا أنّ السلطة لم تكن بوارد السماح بهذا الأمر لأنه يمس أساسا من أسس هيمنتها، لضرورة عدم اللعب بالموزاييك الداخلي المستقر، وهو ما دفع الكاتب بشار العيسى لعنونة مقاله "أوراق النعوة الطائفية تعتقل الكاتب ميشيل كيلو" جاء فيه: "يكون ميشيل كيلو، قد ارتكب غلطة الشاطر، باجتيازه خط النار في تناول المحظور، مثلث المحرمات: الطائفة، العائلة، والعسكر، في مد إصبع الإتهام إلى الجرح الطائفي، بل بالقبض على المتهم، الطائفية، بالجرم المشهود".

ورغم أن السلطة اعتقلت ميشيل لأنه اجتاز حدا من الحدود التي احتكرتها لنفسها ( وهي الطائفية) إلا أنها لم تظهر أبدا أنها اعتقلته لهذه الأسباب، بل أوحت بذلك إيحاءا، لإيصال رسالة لكل الناشطين والسياسيين والمجتمع أنها لن تسمح بأن تصبح المسألة الطائفية مجال حوار عام، لأن هذا سيؤدي على المدى البعيد لفقدانها ورقة الطائفية التي توظفها في ضبط المجتمع وضرب مكوناته ببعضها البعض. وثانيهما: تأكيد استمرارها في سياسة احتكار الطائفية تلك.

في مثال آخر، أصدر المعارض السوري رياض سيف في فترة ربيع دمشق "حركة السلم الاجتماعي" التي تحدث بها عن فسيفساء اجتماعية في سوريا، وكانت هي أوّل تعبير بطريقة ملطفة عن الطوائف في سورية، حيث جاء فيها: "يمتاز الشعب السوري بتعددية عرقية ودينية لكون سورية مهداً للأديان السماوية والحضارات القديمة"، ليتم اعتقاله، و إنهاء ربيع دمشق خوفا من "جزأرة" سورية كما قال نائب الرئيس السوري السابق المنشق عبد الحليم خدام آنذاك.

في أحداث الثمانيات يروي البعض أن السلطة حين كانت تريد أن تعتقل أعضاء حزب العمل الشيوعي في قرية ما من قرى الساحل، كان رجال الأمن يقومون بكتابة شعارات طائفية على جدران القرية ليلا، من قبيل " يسقط النظام العلوي الطائفي"، و بعدها بأيام يتم اعتقال المناضلين، فكان أهل القرية البسطاء يربطون بين حدث الاعتقال والكتابات ليبدو وكأن المناضلين الشيوعيين اعتقلوا لأنهم كتبوا تلك الشعارات، فيحقق النظام أهداف ثلاثة من ذلك، هي:
(1) شد عصب الطائفة لديه عبر تقديم نفسه أنه الحامي لها.
(2) تأكيد الربط بينه وبين الطائفة كصمام أمان خلفي وكوقود يستخدم لحمايته بنفس الوقت.
(3) تشويه صورة هؤلاء المناضلين في بيئاتهم الاجتماعية، خاصة أن الأمر يرفق بشائعات مكثفة تدفع الناس نحو الخوف وتصديق كل ما يقال.

الأمثلة السابقة تعطي مؤشر لكيفية استخدام السلطة للورقة الطائفية، فهي لم تكن سلطة طائفية إطلاقا، لأن السلطة الطائفية التكوين يكون الاهتمام بالطائفة وتحسين أوضاعها من صلب اهتماماتها وتأخذ وضع الطائفة في كل اعتباراتها وسياساتها كمثل السلطتين السعودية والإيرانية القائمتين على بينة طائفية صلبة، في حين أن السلطة المستخدمة للطائفية لا تعدو أن تكون الطائفة في حساباتها أكثر من ورقة تستخدمها بين أوراق أخرى لإدامة السيطرة، وهو حال النظام السوري الذي احتكر الطائفية لنفسه دون أن يكون طائفيا في العمق، لأن " النظام متمركز حول السلطة لا حول مشاعر التضامن الطائفي التي لا تعدو كونها وسيلة مأمونة لنيل السلطة" كما يقول ياسين الحاج صالح، وذلك من خلال منع المجتمع والأحزاب السياسية من الحديث بالطائفية أو تداولها على مستوى الإعلام، إضافة إلى اعتماده ممارسات طائفية.

ولأن أفعال وسياسة أي سلطة يكون لها صدى ما في المجتمع وتحدث تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية في من يقع عليهم أفعال السلطة، فإن هذا الأمر أدى في سوريا من جملة تحولات كثيرة إلى ولادة ما أسميه "الطائفية المستترة" فلا هي متجاوزة باتجاه حالة وطنية أرقى، و لاهي ظاهرة بوضوح بحيث يمكن رؤيتها وتلمسها وبالتالي معالجتها، فبقيت الطائفية السورية كامنة ومستترة في حالة كمون، بانتظار انفجار المرجل الذي كان لابد منه، والذي جاء بعد أشهر من بدء الانتفاضة السورية، بسبب رمي السلطة لكل أوراقها الطائفية من جهة، واتجاه المعارضة في غباء قل نظيره للعب بالورقة الطائفية إياها ظنّا منها أنها تسهل مهمتها في إسقاط النظام، نزولا عند أجندة خارجية لا تهدف إلا تأجيج الطائفية التي تكون مدخلها للتدخل في الحالة السورية، تحت شعار حماية الأقليات الذي رفعته السياسات الاستعمارية ضد السلطنة العثمانية.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد