غطفان غنوم: الإبداع لا يتحقق دون حريات


07 كانون الثاني 2015

حين اندلعت الثورة كان الفنان والمخرج السوري غطفان غنوم (38 عاما) يعد فيلما وثائقيا لصالح المؤسسة العامة للسينما تحت عنوان "صور الذاكرة". ولأنه يؤمن أن على الفنان ألا يكون منفعلا فيما يحدث في بلده بل فاعلا انسحب مباشرة "من مهمة وضع التيترات النهائية للفيلم كموقف شخصي محتجا على ما كان يجري" من تغوّل أمني وعسف ممارس على الشعب السوري، تاركا دمشق نحو مدينة حمص التي كانت تنهي لياليها على وقع التظاهرات المعارضة للنظام، ليعايش "الأحداث الدامية التي وقعت في أحيائها عن كثب"، ويبدأ العمل على صناعة فلم وثائقي في مدينة القصير "يحاكي معاناة الناس أثناء فرض الحصار على مدينتهم وتجويعهم تمهيدا لاجتياح المدينة"، وهو الفلم الذي تم "عرضه لاحقا في عدة أماكن في أوربا, وتمت تغطيته من قبل التلفزيون الفنلندي" كما يقول لـ حكاية ما انحكت.

الفنان الذي تخرّج من أكاديمية الفنون السمعية والبصرية في جمهورية مولدافيا حاول أن يلتقط في فيلمه "مدينة ثائرة" آثار الدمار الذي أحدثه الطاغية في مدينة حاولت أن تقول لا في وجه من قالوا نعم، فحوّلها الطاغية إلى أشباح مدينة ترصدتها كاميرته كي لا تدع جرائم الدكتاتور تمر دون دليل، أليس هذا أحد مهمات الفن: التوثيق ومنع تزوير الأحداث والتاريخ؟

لم يتوقف ابن مدينة حمص عند حدود امتشاق الكاميرا والذهاب بها إلى أماكن الحدث، فبعد خروجه من البلد إلى فنلندة حيث يقيم اليوم بعد محطة فاصلة في بيروت هربا من البطش والاعتقال، شارك بصوته في تسجيلات شعرية تتحدث عن الثورة والإنسان واللاجئين، إلا أن أكثرها تأثيرا وقدرة على الإيغال في الروح تلك الموجهة للمعتقلين السائلة إياهم: عما يفعلون في تلك اللحظة الآن، في الوقت الذي نعيش فيه الحياة فيما هم مغيّبون في الظلام.

وساهم الفنان في الكتابة والتمثيل والدراما، معتبرا كل ذلك نوعا من "أداء الواجب الذي يمليه الضمير كمواطن أولا. وكفنان ثانيا في نصرة القضية المحقة للشعب السوري المظلوم".

الفنان الذي يجد نفسه في مساحات السينما الروائية كما يقول، لم يتح له المجال في ظل الاستبداد لأن يجد ذاته، لأن "الواقع المزري للفنان السوري اللا مندرج على حواف فوهات التبويق في عهد النظام الأبوي والوراثي لم يتح لي تقديم رؤى فنية تعبر عن هواجسي، فكانت السينما الوثائقية مخرجا وحلا". وهو ما دفع الفنان لتقديم عدد من الأفلام الوثائقية التي لم يتح لها الانتشار لأن "آلية التواصل الشعبي إن صح التعبير بين الفنان والجمهور كانت شبه عقيمة قبل انطلاق الثورة بسبب تكبيلها بقيود شتى"، وهو الأمر الذي ساهم (إلى جانب عوامل أخرى) في ألا يتردد لحظة في الانضمام للثورة التي يشكرها الفنان لأنها "أتاحت للمنجز الفني الانتشار".

لا يفصل الفنان بين العمل الفني والحرية، لأنه الفن لا يكون دون الحرية، حتى إذا أردنا أن نبقى ضمن مجال الاختصاص لأن "الفن بصفته منتج وجداني لابد وأن يتبلور في حيز واسع ومطلق ولا متناهي من الحرية. الإبداع لا يتحقق دون حريات, وأقصد هنا حرية إطلاق الرؤى الفنية نحو أقصاها".

وأما عن دور الفن في التغيير المباشر، فإن الفنان يرى أنه يلعب دورا عبر ما يسميه "أسلوب المساهمة الناعمة التي تساير الوجدان الإنساني العام والمقبول"، حيث يساهم الفن بـ"خلق وعي شعبي عام ينأى عن بنفسه عن التقرب من الإرهاصات الوحشية التي تفرضها عادة الحروب, الفن هنا يتخذ موقعه بجانب الأمل". هذا الأمل الذي يسعى لتحقيق الديمقراطية التي تتقاطع مع الفن بوصفه "تمردا ضد كل دمار وعدوان يحيق بالإنسان"، فكما أن الديمقراطية تجربة ترمم نفسها بنفسها عبر التجديد المستمر للقوى الدافعة لها, كذلك الفن يرمم ذاته, فلا خوف حتما من خروج بعض النتاجات الفنية التي تزيف الحقائق لأنها ستسقط حتما بفعل افتقارها لنسغ الحقيقة الذي يمد الفن بحيوية الأبدية".

أنهى المخرج "غنوم" مؤخرا عمله "بوردينغ" (سيكون لنا وقفة خاصة معه) الذي أجرى تحقيقاته في اليونان راصدا ما يعانيه السوريون من مصاعب خلال محاولاتهم المستميتة في البحث عن الأمان ، محاولا "من خلاله رسم لوحة ما تحمل في إطارها العام كل مكونات المشهد السوري المؤلم ومجترحاته, حيث تغدو عملية البوردينغ عملية للانتقال نحو واقع آخر مختلف عن واقع التعسف الذي عانيناه في ظل نظام القمع".

برومو لفلم بوردينغ. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على اليوتيوب
برومو لفلم بوردينغ. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على اليوتيوب

الفنان الذي ينتظر اليوم عرض "بوردينغ" لا يتوقف ذهنه عن التفكير بالقادم، إذ يستعد "للبدء بتصوير فيلم وثائقي جديد يبحث في قضية أسلمة الثورة السورية"، الأمر الذي يعطينا فكرة موّسعة عن الهواجس التي تعتمل في ذات الفنان الذي يمتلك عين نقدية تجعله يذهب إلى عمق الثورة ليشرحها، ليبقى وفيا بذلك لعينه السينمائية دون أن يفقد انتمائه الإنساني لأنه "يتعامل قبل الكاميرا بالأحاسيس"، وبوصفه "مواطنا نال حصته من القمع، و فنان عايش قولا وفعلا القصف والحصار والموت والرعب".

الوسوم:

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد