السوريون والثلج: قصة حرية لم تنته


13 كانون الثاني 2015

كأن الموت بالكيماوي و المعتقلات و قذائف الطائرات والمدافع لم يشف غليل عزرائيل من دماء السوريين بعد؟
وكأن الإذلال الذي يتعرضون له في مخيمات البؤس/ العار ودول الجوار لا يكفي! فجاءهم عزرائيل هذه المرة بزي رجل الثلج، ليضاف سبب جديد إلى أسباب موت السوريين الكثيرة، إذ قالت "نهى سويد": "هذا حال السوري.. أن تموت من البرد أو تموت تحت التعذيب أو تموت جوعا تعددت الأسباب وموتنا واحد"، وهو ما عبرت عنه لوحة لصفحة "طين وسكين" حملت عنوان "مات من البرد".

لوحة بعنوان "مات من البرد". المصدر: صفحة طين وسكين على الفيسبوك
لوحة بعنوان "مات من البرد". المصدر: صفحة طين وسكين على الفيسبوك

 

العاصفة الثلجية التي وصفها الجميع بالأقسى بين كل العواصف التي مرت على السوريين خلال ثلاث سنوات إلا نيف، كانت موضع سجال السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي لمدة أيام، وكأنهم يلتمسون الدفء ببعضهم البعض، فمن في الداخل يهرب إليها ليبث أوجاعه، ومن في الخارج يعبّر عن عجزه من مواجهة الحال التي وصل إليها أمر السوريين، خاصة أن عاصفة هذا العام تزامنت مع تراجع و شح الدعم المقدم للاجئين السوريين من المنظمات الدولية، ومع صدور قرارات تقيد دخول السوريين إلى لبنان، ليصبح حتى الهروب من جحيم الموت بالقذيفة أو المعتقل إلى جحيم الموت بالمخيم أو الثلج ممنوعا على السوري، حيث قالت "شهرزاد جندي" ساخرة "خبر عاجل: أصدرت الكرة الأرضية قرار منعت بموجبه دخول السوريين"، في حين رسم الفنان "علاء اللقطة" لوحة "مخيمات" تظهر تحول المخيمات إلى مقابر في ظل الثلج.

وفاة عدد من الأطفال في المخيمات تجمدا من البرد، زاد من منسوب العجز، لعدم قدرة الأطفال على مواجهة هذا البؤس، إلى درجة أن "بائعة الكبريت" في الرواية الشهيرة باتت تشعر أنها بأفضل حال لأنه "على الأقل كان معي بضع أعواد ثقاب" كما يقول الكاتب عبد الله القصير. وقد وجد الأمر صداه في لوحات كثيرة لفنانين سوريين، حيث رسم الفنان "ياسر أحمد" لوحة "أطفال المخيمات" حيث رجل الثلج يقلد الطفل السوري وساما، في حين رسم الفنان "هاني عباس" لوحة "كان هنا قبل قليل" تعبيرا عن روح طفل غادرنا نحو عالم آخر بسبب البرد.

لوحة للفنان ياسر أحمد. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك
لوحة للفنان ياسر أحمد. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك

الموت هكذا وأمام الشاشات دون أن يرف جفن أحد، أطلق أسئلة لا أجوبة لها عن الضمير العالمي، الذي نسي السوريون في متاهات الموت، وهو ما عبّر عنه الفنان السوري "عمران فاعور" بسخرية في لوحة "مساعدة" التي تظهر حذاء تزلج مقدم كمساعدة إنسانية، في حين قال الفيلسوف السوري "أحمد برقاوي": "لم تمر البشرية بانحطاط إنساني وتبلد في الضمير الأخلاقي كما هو حالهم الآن، حيث ملايين السوريين المشردين في بلاد اللجوء في الخيام يواجهون غضب الطبيعة والموت صقيعا وبيوتهم أمام مرآهم..أي عالم بلا قلب".
ولكن لم نلوم العالم إن كان السوريون لا يقومون بما يجب القيام به؟

هذا ما قالته الفنانة "ريم علي" ضمنا حين تساءلت عن أسباب تكرر المأساة كل عام، وعدم قدرة النشطاء والمنظمات العاملة في شؤون الإغاثة على تأهيل وضع المخيمات لتواجه هذه الكوارث، إذ وجهت نقدا حادا للنشطاء والمنظمات حين قالت: "ما بعرف ليش خايفين عاللاجئين. هناك جيش من النشطاء الإنسانيين السوريين في لبنان نفسها. كنت أراهم دائما في شوارع الحمرا ( السودا ). العديد من المؤسسات التي تموّل نشاطاتهم الإنسانية المرهفة، و غالبا ما تتم اجتماعاتهم و اتفاقاتهم المسعفة داخل باراتها و مطاعمها. ضحكاتهم الجميلة و نميمتهم المحببة على بعضهم تشعرك بوجوب الاسترخاء تجاه العواصف. هم لا يمولون شعب الخيام ليتق العاصفة قبل وصولها. لا ، بل هذا الجيش الإنساني الجميل الذي يعلم تماما أين يصرف دولاراته المقبوضة قبل و بعد العاصفة".

لوحة للفنان علاء اللقطة. المصدر: الصفحة الرسمية لمؤسسة دولتي على الفيسبوك
لوحة للفنان علاء اللقطة. المصدر: الصفحة الرسمية لمؤسسة دولتي على الفيسبوك

السوريون في الداخل كانوا الأكثر تعبيرا عن مشاعرهم المتناقضة جراء العاصفة، فهي منحتهم راحة من الموت عبر قصف الطيران والمدافع إذ أجبرت النظام على عقد هدنة إجبارية لعجز طياريه عن الرؤية، ولكنها جعلتهم بمواجهة البرد الزاحف إلى عظامهم في ظل غياب الكهرباء والمازوت وكل وسائل التدفئة، إلى درجة تمني الموت، حيث قال عبد الكريم عمرين من مدينة حمص: "لاماء.. لاكهرباء.. لاوقود. برد.. برد.. يشق مسامير عظامنا. يارب هوّن الموت واجعله قريباً. قادر ياكريم. لا نطلب سوى الموت يارب. كتييييييييير؟ لك ياالله كتيييييير؟؟؟!!"، في حين قال المحامي "ميشيل شماس" من دمشق: "برد سيبيري في دمشق. حشرنا أنفسنا في غرفة واحدة بعد أن تحول المطبخ وغرفة النوم إلى براد. فالبرد القارص يحوم حولنا من جميع النواحي. لا نستطيع النوم من شدة البرد. فكيف الأمر مع المعتقلين واللاجئين؟"، علما أن شماس لم يتوقف طيلة العاصفة عن إنزال صور وفيديوهات قصيرة تصوّر واقع دمشق التي لفها السكون جراء توقف الطيران وقطع الثلج لكل شيء إلى درجة أنه "لم يبق لنا سوى الانترنيت لتتبع الأخبار، بعد انقطاع الإرسال الفضائي بسبب تراكم الثلوج على الصحون اللاقطة".
في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة والمحاصرة منذ شهور طويلة كان الأمر أقسى حيث يعاني الناس هناك من كل شيء: الموت والجوع والبرد وعدم الآمان. إلا أنهم يمتازون بالصلابة فهم اعتادوا وتكيّفوا مع كل ما يحيط حولهم، إلى درجة أنهم ما زالوا قادرين على إيجاد وقت لرفع اللافتات، ففي مدينة داريا نقل المركز الإعلامي لمدينة داريا صورة لرجل الثلج وهو يحمل لافتة كتب عليها: "بخيام اللاجئين يوميا يموت فقير وبقصور الحكام يموت الضمير"، إضافة إلى قيام المركز بنقل صور حية من المدينة ومن ريف دمشق حول تفاصيل الحياة في ظل العاصفة، من صورة تنقل تشييع رجل رغم الثلج، إلى حد إيجاد مساحة للسخرية من خلال شريط فيديو يظهر مدفع يطلق هاون ثلجي!

رغم أن مفردات الحرية كانت الأقل تواترا هذا العام بين السوريين وهم يواجهون العاصفة قياسا بسنوات سابقة، لصالح التعبير عن الألم والشكوى والمعاناة، فإن الأمر كان متضمنا في كل تعبيراتهم وأكثر ما تجلى في السخرية من الدكتاتور الذي ظهرت صور له وهو يلعب مع عائلته بالثلج، حيث سخر الإعلامي "فيصل القاسم" قائلا: "بشار سوريا يبتسم وأطفال سوريا يموتون تحت الثلج" بجانب صورة للدكتاتور وعائلته وصورة لأطفال سوريا تحت البرد.

إذا كانت شعارات الحرية خلت من تعبيرات السوريين وهم يقاومون الثلج، فإن الفن لم ينس أن كل ما يحصل حدث لأن السوريين يريدون الحرية، وهو ما عبّرت عنه لوحة الفنان "سمير خليلي" حين أظهرت مظاهرة لرجال الثلج وهم يرفعون عبارة "حرية"، وكأنها تأتي لتذكير السوريين قبل العالم بأن الحرية هي الهدف الأساس لكل ما جرى ويجري.

رغم أن الثلج كل عام يأتي ليوقظ مواجع السوريين وآلامهم، فإنه يأتي هذا العام ( ويا للملهاة) ليسلط الضوء على قضيتهم بعد تجاهل العالم لهم، وليؤكد عدالة قضيتهم نحو الحرية، لتصيح حكاية السوريين مع الثلج من كل عام هي حكاية الحرية ذاتها، فهم لأجلها يتحملون لا الثلج وحده: بل الموت أيضا.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد