في الساعة الواحدة ظهرا من يوم 17/1/2015 تعرض كل من مركز مزايا وراديو فريش في مدينة كفر نبل لاعتداء من جبهة النصرة، بحجة طباعة العدد (173) من صحيفة "سوريتنا" التي نشرت بوسترا تضامنيا مع "الصحفيين الذين قضوا في الهجوم" على صحيفة تشارلي، معتبرين أن الصحفية مع الإساءة للنبي محمد، وهو الأمر الذي ترفضه "سوريتنا"، لينتهي الأمر باعتذار جبهة النصرة وخروج مظاهرة تندد بالاعتداء وتطالب بحماية حرية التعبير، شارك بها كل من الناشط رائد الفارس والإعلامي هادي العبدالله.
في اليوم التالي (18/1/2015)، أقدم مسلحون على ملاحقة موزعي أربع صحف هي "صدى الشام، تمدن، سوريتنا، عنب بلدي"، تبعها عملية حرق لنسخ الصحف المتهمة بالتضامن مع تشارلي عبر فيديو نشرته قناة "حلب اليوم" على صفحتها على الفيسبوك، جاء فيه حصلنا "على تسجيل حصري من "شعبة المعلومات" قالت فيه إنها صادرت مجلات وجرائد مسيئة للنبي في أحياء حلب الخاضعة لسيطرتها، بالتعاون مع "حركة أحرار الشام". ويظهر في التسجيل حرق الجرائد المصادرة. كما قررت الشعبة في التسجيل منع تداول جرائد ومجلات (سوريتنا - عنب بلدي - صدى الشام - تمدن ) بسبب "تأييدها لمجلة فرنسية أساءت للنبي محمد" على حد تعبيرها".
ما حقيقة موقف الصحف من قضية تشارلي؟
حين تعرضت صحيفة تشارلي للاعتداء أدرك الإعلاميون السوريون أن هذا الحدث سيستثمر من قبل النظام ضد ثورتهم، وأن العالم الغربي سينظر إلى سوريا كبؤرة للإرهاب يجب احتوائها، فكانوا سباقين للتضامن مع الصحفية، حيث تقول صحيفة عنب بلدي لـ "حكاية ما انحكت"، وهي إحدى الصحف التي تعرضت نسخها للحرق أن "المزاج السوري الشعبي عند صدور المطبوعات كان متضامنًا بالعموم مع جريدة "شارلي إيبدو" من جهة أن الرأي لا يجابه بالرصاص، وبهذا السياق نشرت سوريتنا البوستر المذكور ونشرت عنب بلدي مقال رأي للكاتب أحمد الشامي يستنكر فيها الحادثة ويحذر من تداعياتها على المسلمين، كذلك جاءت افتتاحيات بعض الصحف الأخرى مستنكرة للحادثة"، في حين قالت صحيفة "سوريتنا": "لم نتضامن من الصحيفة الفرنسية، بل تضامنا مع الصحفيين الذين قضوا في الهجوم عليها، ومع حقها في الصدور.. كنا ندين الهجوم واستخدام العنف كرد عليها، وأشرنا إلى موقفنا هذا في العدد الذي تعرض للإتلاف، بأننا ندافع في سوريا عن حرية الرأي والحق في التعبير، ونرى أن من نفذ هجوم باريس، ضرّنا أكثر من أن يكون قد نفع قضيتنا السورية".
موقف التضامن الواسع مع تشارلي تراجع قليلا بعد إقدام الصحيفة على إعادة نشر الرسوم مرة أخرى، حيث تقول "عنب بلدي" أنه "بعد إعادة نشر الصور المسيئة للنبي (ص) وتوزيع ٥ ملايين نسخة منها، تغيّر موقف الشارع وموقف الصحف نفسها، وبدا الأمر كاستخفاف واستهزاء فاضح من قبل الصحيفة بمشاعر ملايين المسلمين الذين وقفوا مع ضحاياها في البداية، ولذلك أصدرت الشبكة السورية للإعلام المطبوع (التي تضم سوريتنا، عنب بلدي، كلنا سوريون، تمدن، صدى الشام) بيانًا مشتركًا تحدد فيه موقفها من الصحيفة وتستنكر إعادة نشر الرسوم".
إذن، إن مواقف الصحف من قضية تشارلي كان واضحا لجهة رفض الطريقة التي أساءت بها تشارلي بنشرها كاريكاتير للرسول، إلا أنها ضد الطريقة التي تم بها الرد على تشارلي باستخدام الرصاص، وقد عبر رئيس تحرير صحيفة صدى الشام "عبسي سميسم" الأمر بالقول أن "ثلاث من الصحف التي تم إحراقها بحجة تأييد الصحيفة الفرنسية المسيئة، هي ممن نشرت مواداً ضد تلك الحملة، وتقف موقف المعادي حتى لمظاهرة باريس التي تضامنت معها كون المتضامنين لا يزالوا صامتين أمام جرائم النظام، وانتقدت الطريقة التي تم الرد بها على الصحيفة الفرنسية"،الأمر الذي يطرح سؤالا عن سبب هذا الاعتداء على الصحف أيضا وأهدافه ونواياه ومن قام به؟
من قام بالاعتداء؟
إذا كان واضحا جدا أن جبهة النصرة هي من قام بالاعتداء على مزايا وراديو فريش، فـ"جبهة المعلومات" التي تقف خلف حرق الصحف ومطاردة الموزعين كما يظهر الفيديو لا يزال حولها الكثير من الضباب، بين من يعتبرها جهة تابعة للنظام تعمل في المناطق المحررة إذ يقول "سميسم" أن "أذنابا للنظام لا يزالون يعيثون فسادا في مناطق يفترض أنه تم تحريرها منه"، وبين من يعتبرها جهة استخباراتية تابعة لبعض الفصائل المقاتلة، في حين تتهم صحيفة "سوريتنا" كلا من جبهة النصرة وحركة أحرار الشام بالوقوف خلف الحادث، قائلة "من المعلومات التي جمعناها من مراسلينا في سوريا ومن شبكة موزعينا، فإن الجهة التي قامت بحرق العدد ١٧٣ من سوريتنا ليست جبهة النصرة فقط، .. فقد شاركت حركة أحرار الشام في إصدار الأمر .. فيما كان بعض "الناشطين" قد فعلوا الأمر ذاته منفردين أيضاً وفق فيديوهات وصور أخرى"، متهمة النصرة "بتهديد الموزعين للنسخة المطبوعة، واستدعت بعضهم بغرض التحقيق وهددت المراسلين في الداخل"، مؤكدة أن "الفريق في الداخل بات في وضع جيد، إلا أنه من الممنوع عليه التعامل معنا والاستمرار في الفريق".
صحيفة صدى الشام بلسان "سميسم" لها رأي مختلف إذ قال لـ"حكاية ما انحكت" أن حركة أحرار الشام قالت أن الفيديو "لا يخصها وهي تضع اللوغو الخاص بها على فيديوهاتها وبياناتها ولا تخاف من الظهور بشكل علني عكس الفيديو الذي ظهر فيه أشخاص ملثمون هم على الأغلب شلة زعران. ونحن نطالب قناة حلب اليوم بالكشف عنهم"، الأمر الذي يضع الكرة في سلة قناة حلب لكشف مصدر الفيديو الذي قد يكون بداية حل الغموض عن "شعبة المعلومات" التي اتهمتها جهات عدة بـ "العصابة الفاسدة" في بيان نشرته صحيفة "عنب بلدي"، خاصة أن اسم أحرار الشام التي تنصلت من الأمر مكتوب بجانب الفيديو على صفحة القناة!
الهدف من الاعتداء؟
إن اعتذار جبهة النصرة من "مزايا" و"راديو فريش" ونأي حركة أحرار الشام بنفسها عن الفيديو، ولو ظاهرا على الأقل، تبين أن القضية كلها مفتعلة من حيث أن موقف الصحف من الاعتداء على الرسول واضحا وإن كان يتضامن مع تشارلي لجهة وحشية الاعتداء الذي تعرضت له، مما يطرح سؤالا عن الهدف مما جرى؟
تقول صحيفة "سوريتنا" أنها سبق وتعرضت للتضييق "من قبل ذات الفصائل التي هاجمتنا مؤخراِ، بحجة أننا "دعاة للعلمانية والدولة المدنية في سوريا". ونتهم من قبلهم بأننا نعاديهم تحت عنوان يقول بأننا نعادي الإسلام، وهذا افتراء طبعاً، لكن الصراع السياسي والعسكري على الأرض ينعكس علينا بهذه الطريقة"، في حين يقول "عبسي" أن ثمة "فكر شمولي أحادي حاقد على وصول الإعلام البديل إلى المناطق المحررة من سيطرة النظام، وأن من قام بهذا الفعل، كان يتربص بصحف الشبكة السورية للإعلام المطبوع والتي صارت تمتلك شبكة توزيع واسعة داخل تلك المناطق، وقد جاءته الفرصة كي يستثير الرأي العام في الداخل السوري ضدها، من خلال استغلال قضية الصحيفة الفرنسية شارل ايبدو"، معتبرا أن الهدف "استثارة لمشاعر الناس" عبر اتهام الصحف " بمعاداة الدين الإسلامي، علما أنه في حالة مثل حالة المناطق المحررة التي تسودها الفوضى الأمنية يعتبر توجيه تهمة الإساءة للرسول الكريم إلى كل من يعمل في الجرائد التي تم حرقها بمثابة تحريض على القتل لكل من يمت للصحف المحروقة بصلة".
هذا الأسلوب يلقى صدى في ظل الأوضاع الصعبة والسيئة التي يعيشها الناس في تلك المناطق، وفي ظل غياب مرجعية سياسية أو اجتماعية وفي ظل جهل الناس، حيث تقول سوريتنا "للأسف نحن أمام مجتمع لا يقرأ، بل يحكم على كل شيء من زاوية "هكذا قيل لي"، وهذه ليست مشكلة تدين على الإطلاق، بل هي مشكلة أو ثقافة خاطئة .. لم نكن جاهلين تماماً بآثار موقفنا حين قررتا النشر، كما نعلم بالتبعات جيداً، وكنا مصرين على إيصال رسالتنا التي نعتقد أنها صحيحة"، في حين تقول"عنب بلدي" أن "رأي السوريين ومزاجهم (المعلن) رهين بمزاج القوى المسيطرة على مناطق تواجدهم، أو بثقافة مجتمعاتهم، وهذا يؤثر في الغالب على أحكامهم ومواقفهم من الصحف المحلية، قبولًا أو رفضًا".
هل حرية التعبير في خطر؟
إذا كان الأمر ليس الدفاع عن الإسلام بل تحقيق أجندة سياسية بفرض المشروع الإسلامي بمواجهة المشروع المدني أو منع الشبكة من العمل مستقلة كما يقول مسؤولو الصحف، فهذا يعني أن حرية التعبير التي ثار لأجلها السوريون ضد النظام هي المستهدفة، حيث قالت "عنب بلدي" أن "الاعتداء بالنسبة لنا مؤشر سيء جدًا على تدني مستوى الحريات في المناطق المحررة، التي تسيطر عليها بعض القوى الإسلامية على الأرض، ونحن نتواصل حاليًا مع بعض أصحاب القرار لتدارك المشكلة، وقد تلقينا ردودًا إيجابية حتى الآن تسمح للشبكة بمعاودة توزيع الصحف في الداخل مع بعض التحفظات على واحدة منها، لكننا لن نستأنف التوزيع حتى نتلقى ضمانات كافية تكفل أمن وسلامة الموزعين، الذين تعتبر سلامتهم في مقدمة أولوياتنا"، في حين تقول "سوريتنا" أن حرية التعبير "حقاً مقدساً صانته الأديان السماوية أولاً، فالعمل من أجلها مستمر ليس فقط في سوريتنا، بل نعتقد أن الكثير من السوريين يعلمون من أجل انتراعها ونشرها، ابتداء من كل معتقل قال كلمة فغُيب، وليس انتهاء بصحفي كتب فكُفر، نتعامل مع كل ما حدث في سياقة الطبيعي ولا نرى أنه منعزل عمّا مررنا له جميعاً في سوريا، أو عن ما مررنا به على المستوى الشخصي"، الأمر الذي يدفع للسؤال عمن تضامن معهم في هذه الحملة ضدهم؟ و عن خطة عملهم القادمة، وما إذا كانوا سيرضخون للضغوط أم لا؟
الصحف الأربعة التي تعرضت لحرق نسخها تضامنت مع بعضها بموقف واضح، إضافة إلى إذاعتي ولات وسوريالي و سمارت والمدن والعربي الجديد والليبراسيون الفرنسية وشخصيات سياسية وإعلامية, كما أصدر الائتلاف بيانا دان فيه عملية الحرق.
ولكن الخطر هنا تعرض الصحف لهجوم وانتقاد من إعلاميين آخرين، إذ تقول سوريتنا: "بعض الإعلاميين حرضوا علينا واتهمونا بأننا نسيء للنبي، تماماً كما فعل كل من لم يقرأ العدد المستهدف، بعضهم لم يكلف نفسه عناء قراءة ٣٠٠ كلمة مرفقة بالصور التي أعدنا نشرها لصحيفة تشارلي، والتي كانت تعالج الوضع السوري "بشار الأسد تحديدا" وبعضهم لا يزال يصر على أن غلاف العدد المذكور هو تلك الصفحة التي تم تداولها كثيراً، علماً أن الغلاف كان عن ضحايا الثلج في سوريا، أذكر بأنهم صحافيون"، الأمر الذي يعكس الدور السلبي للإعلام هنا.
أما عن كيفية الرد والاعتداء ومواجهته، تقول "سوريتنا" أن "أفضل طريقة لمواجهة كل هذا هي باستمرارنا في الصدور من دون أي تغيير في سياستنا التحريرية مع حرصنا الكبير على سلامة فريقنا في الداخل"، في حين تقول "عنب بلدي": "نحن نلتزم بسياستنا التحريرية ونتمسك بأهدافنا ورسالتنا المعلنة ونترك للجمهور مهمة تقييم أدائنا ونقدنا".
التضامن مع تشارلي تحوّل تضامنا مع الصحف السورية نفسها. إلا أنه كشف عن القوى السورية التي تتربص بحرية التعبير، جاعلة من الحرق والملاحقة والسجن والتهديد وسيلتها الوحيدة لمقاومة القلم، ليتماهى هؤلاء مع النظام وقتلة صحفيي تشارلي في آن، مما يعكس مدى وعورة الطريق إلى الحرية الذي يخوضه هؤلاء الإعلاميون في بيئة غير مرحبة في كثير من الأحيان، خاصة حين يتعلق الأمر بالمعتقدات، وحين يتمكن القتلة من تجيير الدين لخدمة قضاياهم الخاصة.