يحتار من يريد أن يكتب عن فلم "حصار"، إذ تتقاذف الأسئلة في وجهه، هل عليه أن يكتب عن الفيلم مكتفيا به كسينما؟ أم عن صانعو الفلم الذين تداخلت حكاياتهم الشخصية مع و في الفلم الذي لم يتمكن من رصدها كلها، أم عن الاثنان معا على اعتبار أن السينما أضحت عاجزة عن الإحاطة بأحلام المحاصرين؟ بل عاجزة عن أن تكون صدى لواقع أصبح أكثر سوريالية من سينما تتعمد السوريالية!
يأتي الفلم في الوقت الذي يتعرض فيه مخيم اليرموك الذي يتحدث عنه الفلم لهجوم شرس من تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية "داعش"، ليضعنا أمام تحدي العجز عن مقاربة مكتفية بالفيلم وحده، ليطغى العام على الخاص السينمائي المهموم أساسا بالعام.
كيف لا؟ وأحد مخرجي الفلم "جمال خليفة" استشهد خلال هجوم داعش الأخير على المخيم؟ مضافا لما سبق أنه خلال أربعة أشهر هي فترة إنجاز الفلم، فقد "عبد" أحد مخرجي هذا الفيلم، والده برصاصة قناص من قبل النظام، و تعرض "عبد الله" أحد مخرجي هذا الفيلم إلى محاولة اختطاف، و اغتيل "فراس الناجي" منسق مركز وتد والشريك في صناعة هذا الفيلم".
الفلم الذي أريد له أن يكون بمثابة توثيق ورواية لحكاية الجنوب الدمشقي المحاصر الذي يشكل مخيم اليرموك جزءا منه، تحوّل بفعل الأحداث الخارجية الضاغطة عليه لأن يصبح شهادة معمدة بالدم جعلت ممن بقي من المخرجين (عبدالله الخطيب، ضياء يحيى, مؤيد زغموت, براء نمراوي, جمال خليفة, محمد سكري وسيم منور, عبد الرحمن سليم, عمر عبدالله, نوار اليوسف) على قيد الحياة يهدون فلمهم "إلى روح فراس الناجي وجمال خليفة.. استشهدا وهما يوثقان مجزرة داعش وحلفائها المجهولين المعلومين في مخيم اليرموك" وكأنهم بذلك لا يفعلون إلا أن يشيّعوا أنفسهم وهم على قيد الحياة، ألم يكن الشهداء حتى الأمس معهم؟ أم يسهروا معا وينجزا الفلم معا؟ أليسوا هم محاصرين في المخيم حتى اللحظة كمشروع شهداء قادمين؟ أم هذا الفلم يأتي كمحاولة أخيرة لردع الموت أو مقاومته أو هزمه عبر ترك آثر خالد، ليصح عليهم قول محمود درويش "هزمتك يا موت الفنون جميعها".
"حصار" بحد ذاته، هو تحدي للحصار، إذ مجرد أن يتمكن المحاصرون من كسر حصارهم عبر إنتاج هذا الفلم الذي جاء نتاج "ورشة تدريبية أجريت من خلال السكايب لـ 12 شاب محاصر في مخيم اليرموك منذ قرابة السنة والنصف. يحكي هذا الفيلم عن يوميات من واقع جنوب دمشق المحاصر والذي ازدادت قسوة الحصار عليه في المرحلة الأخيرة من إنجاز الفيلم لدرجة أنه أصبح من الصعب على الشباب الالتقاء، لكنهم أصروا وثابروا لنشاهد لحظاتهم الحميمة" كما جاء في موقع بدايات التي أنتجت الفلم بالتعاون مع مركز وتد.
الفلم في جوهره هو حكاية الحياة في ظل حصار خانق، بدءا من صعوبة الحياة في مشهد عابر، إلى لحظة الاحتفاء بمجيء الكهرباء، إلى المشهد الأشد روائية والذي حمل عنوان "يرموك – كراجات"، المستمد من خط سرفيس يربط بين كراجات العباسيين في العاصمة دمشق، إذ يبدأ المشهد بشخص يقرأ في سرفيس مدمر و متفحم بفعل الحرب، متذكرا سيرة هذا السرفيس الذي كان يختزن روائح الحياة والبشر وأصواتهم، من رائحة الشيخ إلى رائحة المرأة الجميلة إلى الشاب الذي يقول لحبيبته "ربع ساعة وبكون عندك بالجامعة"، مستعيدا ذكرى حياة أصبحت نائية، إذ انقطع التواصل بين دمشق واليرموك الذي يتعرض اليوم لهجوم داعش وقصف النظام في آن، ليتحول الحصار إلى "رفاهية" أمام الموت القادم من جنود داعش أرضا وبراميل النظام وقذائفه جوا، وكأن القدر يقول لليرموكيين: حتى الحصار لن تهأنوا به.