حياة الحصار لا تشبه غيرها، هي أشبه بموت مؤقت، تدفع المحاصرين نحو حواف اليأس حينا، وتخرج أقوى لحظات الشجاعة فيهم في لحظات أخرى. ومع طول الحصار الذي أضحى أشبه بحياة يتعب الناس و"يملأ الحزن قلوبهم". هذا الحزن الذي رآه الفنان "أبو مالك" في عيون أهالي مدينة داريا، دفعه للتفكير بكيفية "استغلال موهبتي في الرسم لإضافة بعض الجمال والفرح على حياة المحاصرين في داريا".
اقترح عليه أصدقاءه أن يرسم على الجدران المهدّمة التي تحوّلت معلما من معالم مدينة تتعرض للقصف والهتك، سعيا لتحويل هذه الجدران "إلى لوحات تزرع في قلوب الناس بعض الأمل والفرح، وتؤكد أن الحياة ستستمر ولن تتوقف رغم القصف والموت"، كما يقول لحكاية ما انحكت، وسوريالي والإنسان في سوريا.
بعد تبلّور الفكرة جيدا، بدأ التفكير بمواضيع الرسم وأفكارها، مع تقصّد بأن "تكون الرسومات قريبة من الناس، وبسيطة بحيث يفهمها الجميع على اختلاف أعمارهم ومستوى ثقافتهم"، ليستقر الرأي "على أن تكون الرسومات متنوعةً وتعبّر عن معاناتنا في ظل الأوضاع التي نعيشها, وأن يكون ذلك بطريقة يمكن من خلالها توجيه رسائل للخارج، وبث بعض الفرح والأمل في الداخل"، دون أن يخلو الأمر من نقد للثورة ذاتها، ليصل عدد اللوحات المنجزة حتى الآن ( أيار 2015) إلى عشرين لوحة تتوّزع مواضيعها بين الرسم للأطفال والسخرية، مثل الكتابة على لوح في مدرسة مهدمة "كنا نمزح ونقول يا ريت تنهد المدرسة وانهدت".
في البداية كان أبو مالك وأصدقائه، يخشون أن تكون ردة فعل الأهالي سلبية، لذا بدأ الرسم على الجدران الداخلية التي لا تظهر للناس. إلا أن انتشار الرسوم على وسائل التواصل الاجتماعي والاحتفاء بها، دفع بعض الأهالي للبحث عن الرسوم في المدينة المحاصرة والتعبير عن إعجابهم بها، بل "ساعدني كثير منهم باقتراح أفكار وأماكن وجدران للرسم عليها، فضلاً عن دفعي لمواصلة الرسم، وهذا ما شجعني كثيراً على المتابعة في المشروع"، لتبدأ عملية الرسم على الجدران الخارجية.
"أبو مالك" الذي كان بدأ الرسم كهواية، لا يعتبر نفسه مختصا بالفن، فهو لم يتلقى "دراسة أكاديمية حول فن الرسم, لكنني أحببته منذ صغري، وكنت دائماً أخصص وقتاً كبيراً للرسم على الدفاتر والجدران"، علما أنه لم يقف سابقا أمام جدار ليرسم، فـ "لم تكن لدي تجربة سابقة في الرسم على جدران كبيرة كما أفعل اليوم، لكنني وجدت في داريا المحاصرة ساحة مفتوحة أرسم على جدرانها، بعد أن فتح لي سكان المدينة جميع الطرقات أمام التعبير عن أفكاري كما أريد"، لتصبح الجدران بالنسبة له لوحات بيضاء تغريه لهتك بياضها بألوانه، متحديا الصعاب التي تواجهه فالمواد "قليلة ولهذا فإنني لست حراً في اختيار ما أريد من ألوان, لأنني أرسم باستخدام الدهان والمواد المحللة له، وعلى الرغم من بساطة هذه المواد فإنني أجد صعوبةً في الحصول عليها"، دون أن يستسلم فهو يعمل على تطوير مهاراته على برامج التصميم والمونتاج، ويشارك في أغلب نشاطات المدينة كالغناء في الاحتفالات أو المناسبات والأعراس.
كغيره من الشباب الذين ملأت الثورة أعمارهم وأرواحهم، وجد نفسه فجأة محاصرا في المدينة التي قدم إليها من دمشق بعد أن أنهى دراسته الثانوية دون أن يتسنى له الفرصة ليعود إلى مقاعد الدراسة، فهو لم يكن يزور "داريا قرب دمشق كثيراً في السابق, ولم أكن أعرف الكثير عن طبيعة الناس فيها. لكنني أتيت إلى هنا كما فعل أخي قبلي خلال الثورة، وعلقنا معاً في الحصار منذ عامين, تعرض أخي للإصابة وخرج من البلد كي يتلقى العلاج. أنا رفضت الخروج وفضلت البقاء مع الشباب في الفترة الصعبة التي كانت تمر بها المدينة".
الحصار الذي وجد نفسه فجأة في خضمه، وعدم القدرة على الالتحاق بالجامعة بسبب الأوضاع الأمنية لم تجعله يركن لليأس، فهو مشارك في دورة لتقوية اللغة الانكليزية، إذ تعرف ضمن المدينة المحاصرة على مجموعة من الشباب "منهم من أكمل دراسته ومنهم من لم يستطع ذلك جراء الحرب"، فعملوا معا على خلق عالمهم الخاص، حيث "كنا نقرأ سويا ونتبادل المعارف والخبرات، إلى أن خطرت في بالنا ذات يوم فكرة أن نقوم بجمع الكتب المتناثرة في المدينة تحت أنقاض البيوت المهدمة"، وهو ما أدى إلى ولادة "مكتبة داريا" التي كان لنا وقفة خاصة معها، لتكون "نقلةً نوعيةً في حياتي وفي حياة كثير من الشبان، وأصبحت هي المكان الذي نجلس فيه كي نقرأ ونتحاور في كثير من الأمور، حتى أنني خصصت عدة ساعات يومياً من وقتي لمساعدة أي شخص يريد أن يسأل عن كتاب ما، وهو الأمر الذي وطد علاقتي بالناس في المنطقة".
الرسم بالنسبة لأبي مالك لم يعد وسيلة للحياة ومقاومة الحصار ورسم بسمة أمل على وجوه الناس فحسب، بل هو الحياة ذاتها، كيف لا؟ والمدينة بجدرانها الكثيرة والمهدمة، أصبحت لوحة بيضاء تنتظر بعشق يد عاشقها ليرسم عليها، فيما العاشق ينام بين أحضانها يوميا، لنغدو أمام فنان ينام في لوحته، ولوحة تضم رسامها، وهو ما يجعلنا نفهم بعمق معنى قوله: "لن أتوقف عن الرسم ما دام هناك مواد بسيطة يمكن استخدامها، وما دمت على قيد الحياة".
كتبت هذه القصة بالتعاون مع الإنسان في سوريا وراديو سوريالي وصحيفة سوريتنا.