إن كان الحب يأتي من الطرق التي لا نعرها اهتماما عادة، وفي الأوقات التي لا نكون مستعدين لاستقباله فيها، ونحن بكامل فوضانا ولاأناقتنا، مباغتا إيانا على حين "غرة"، فإن أغرب الحب هو ذاك الذي يأتي على حين حصار، وفي الوقت الذي يكون فيه المرء لا يفكر بأكثر من أن "أخرج من البيت مسرعة كي لا أغوص في المعاناة اليومية لأفراد عائلتي, لأن كل صباح هو بدايةٌ لمسلسل مصاعب تأمين الطعام والشراب، أخرج مسرعةً قبل أن يبدأ صراخ أبي، و بكاء أمي الحزينة على أخي الصغير الجائع" كما تقول "ليلى" لحكاية ما انحكت.
أثناء زيارتها لأهلها في الغوطة الشرقية وجدت نفسها عالقة في الحصار، وعاجزة عن العودة إلى الجامعة لمتابعة سنتها الأخيرة في الهندسة الزراعية، الأمر الذي أدخلها في حالة انتظار لأي "خبر حتى ولو كان كاذباً، ولكن دون جدوى"، لتبدأ التأقلم مع أوضاع الحصار بعد مرحلة كآبة أصابتها، من خلال التعليم في "مدرسة كانت تحتاج إلى مِّدرسين في منطقة نائية وفقيرة في الغوطة المحاصرة"، لتكتسب خبرة في تعليم كافة المواد أهلتها لأن تصبح مديرة الروضة التي تعرفت من خلالها على شريك حياتها، الذي "شجعني على العمل في روضة الأطفال التي كان يعمل فيها أيضاً، وأقنعني أن هناك الكثير لنفعله"، لتبدأ محطة أخرى من حياتها لم تكن قد خططت لها سابقا، ولا فكرت بها إطلاقا، فهي كانت تعيش "على أمل ينتهي الحصار، وأن أعود إلى الجامعة، كنت أعمل كي أملأ وقت الانتظار القاسي والطويل، ولم أكن أفكر مطلقاً بالزواج".
مع تعرّفها على الشاب تغيّر كل هذا، إذ "كان لديه إصرار كبير على البقاء هنا رغم قسوة الظروف، وتصميم على الدفاع عن قناعاته وشغفٌ كبير بعمله"، ليبدأ الحب ينسج خيوطه بينهما حد أن وصل أن ليلى تعتبر اليوم أن "معرفتي به أفضل ما حصل معي خلال تلك الفترة، وأصبحت أرى كل شيء أجمل رغم صعوبة الحصار وقسوته. حلمنا معاً وعشنا اللحظات القاسية معاً وخططنا لأيامنا القادمة معاً".
الحب شكل عاملا جديدا للصمود، فبات الحصار أحلى رغم مرارته، إذ "أقنعني أن هناك الكثير لنفعله، لقد أعاد الفرح والتفاؤل إلى حياتي. سبعة أشهر مرت على زواجنا، ويمكنني أن أقول أنها أجمل سبعة أشهر في حياتي" كما تقول لحكاية ما انحكت.
هذا الحب والاستقرار والأمان النسبي وسط جزيرة الموت، هو ما يساعدها على إدارة الروضة التي تضم حوالي 250 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 3 و 5 سنوات، بكل ما يعني ذلك من برامج دعم نفسي وتعليم وتثقيف للأطفال، دون أن يتوقف الأمر هنا، فهي تعمل في مراكز دعم النساء الساعية لتأهيل النساء لمقاومة ومواجهة الحصار.
جزيرة الأمان والحب هذه لم تلغ واقع الحصار الذي يضغط حيث "الأسواق شبه فارغة من كل شيء, والأشياء المتوفرة فيها قليلة الكمية ومرتفعة الثمن. أصل إلى الروضة أحياناً فأجد الأطفال يبكون من الجوع, أو يتشاجرون من أجل قطعة حلوى بيد واحد منهم. كان بعض الأطفال يفقدون الوعي جراء سوء التغذية ويسقطون أرضاً"، إلا أنها تشكل واحة للهرب والصمود، فتارة يشدها الواقع واليأس نحو تذكر أخيها المعتقل من قبل قوات النظام، "فقد مضى وقت طويل على غيابه، وأفكر في كثير من الأحيان أننا تعبنا من الحصار"، وتارة يدفعها الحب للمقاومة، مدركة أن هذا الحصار جعلها "أقوى بكثير, وتعلمنا الكثير ... تعلمنا كيف نقاوم الظروف ونتحداها ونتغلب عليها. لن نستسلم أبداً سواء جاءت مساعدات من الخارج أم لا، وسواء تم كسر الحصار أم لا, وسواء شعر الناس خارج الحصار بمعاناتنا أم لم يشعروا".
هذه الحكاية أنتجت بالتعاون بين حكاية ما انحكت والإنسان في سوريا وراديو سوريالي وصحيفة سوريتنا.