محمد: "كل يوم قبل النوم، أفكر مثل كثيرين هنا بفكرة الخروج من هذا الحصار, أعرف أن كثيراً من الأشياء تنتظرني خارجه، عائلتي وأصدقائي ودراستي التي أتمنى أن أتابعها".
ليلى: "توقفت حياتي فجأة، وعشت الفترة الأولى على أمل أن يتم فتح الطريق حتى أتمكن من العودة إلى دراستي، كنت أعيش كل يوم وأنا أنتظر أي خبر حتى ولو كان كاذباً، ولكن دون جدوى".
أبو مالك: "كنت أسكن مدينة دمشق قبل بداية الثورة، توقفت عن الدراسة بعد حصولي على الشهادة الثانوية ولم أتمكن من متابعة تحصيلي العلمي بعد بداية الثورة بسبب الأوضاع الأمنية".
حسام: "التحقت بكلية الفنون الجميلة عام 2011، وبعد اندلاع الثورة انخرطت في فعالياتها إلى أن وجدت نفسي ملاحقا ومطلوبا للنظام، فلم أتمكن من العودة إلى الجامعة وأصبحت خارج البلد. أعمل اليوم في سوبر ماركت، مخبئا حلمي وألواني على أمل أن أعود إلى مقاعد الدراسة".
يجمع بين الأقوال الأربعة السابقة، انتماء قائليها لسوريا، وتعليقهم دراستهم في مهب "الحرب" والثورة والأحلام الضائعة، منتظرين "غودو" الزمن الجميل لكي يعودوا إلى حلمهم ولحظتهم التي انقطعوا عنها، بإراداتهم ولا إرادتهم في آن، فمنهم من التحق عن وعي بالثورة مغامرا بكل شيء، كحال محمد (24) عاما، الذي كان يدرس في كلية طب الأسنان (سنة رابعة)، ليلتحق بالكوادر الطبية في الغوطة الشرقي في عام 2012 حين علم بوجود نقص، فـ "تطوعت للعمل الطبي فيها منذ نحو عامين ونصف، وبعدها تم إغلاق كل الطرقات، وبدأ الحصار"، وكذلك حال حسام الذي شارك في التظاهرات في مدينة السلمية، ليجد نفسه ملاحقا من الأمن، ومنهم من وجد نفسه عالقا فجأة في الحصار، هكذا ببساطة، مثل "ليلى" التي قررت "قضاء أيام العيد مع عائلتي والعودة لمتابعة الدراسة في الجامعة بعد ذلك، لكن قوات النظام أغلقت جميع الطرقات وأحكمت الحصار على الغوطة الشرقية، ولم أتمكن من العودة".
بدا الأمر بالنسبة للجميع في البداية كصدمة، لم يعرفوا كيف يتعاملوا معها، حتى لأولئك الذين انخرطوا بالثورة بوعي وتصميم، إذ لم يظن أحدا منهم أن يطول الأمر كل هذا الوقت، فكانت ردود فعلهم تجاه الأمر متفاوتة. الأمور في البداية كانت صعبة على الرسام أبو مالك "في المدينة المحاصرة، ولم أجد الفرصة للقراءة والتعلم، إلا أنني تعرفت لاحقاً على مجموعة من الشبان في داريا، منهم من أكمل دراسته ومنهم من لم يستطع ذلك جراء الحرب, واستطعنا أن نخلق معاً عالمنا الخاص. كنا نقرأ سويا ونتبادل المعارف والخبرات"، في حين أن "ليلى" "بقيت في حالة الترقب الكئيبة تلك قرابة الأربعة أشهر, وحاول أفراد عائلتي مساعدتي على تجاوز الكآبة كثيراً، وفي النهاية بدأت بمحاولة التأقلم مع أوضاع الحصار، وتطوعت في مدرسة كانت تحتاج إلى مِّدرسين في منطقة نائية وفقيرة في الغوطة المحاصرة"، في الوقت الذي انخرط فيه "محمد" في العمل بسرعة لأنه أساسا قدم لأجله، فـ
"في البداية لم يكن هناك نقاط إسعاف مركزية في الغوطة الشرقية، بل مجموعات متفرقة من فرق المساعدات الطبية تطوعت في واحدة منها, مع الوقت أصبح هناك مكتب طبي، وأصبحت متطوعاً في قسم الإسعاف.
بعد عدة أشهر تطوعت مع الهلال الأحمر أيضاً، حيث انقسم عملنا بين العمل الطبي والإسعاف واللقاحات والدعم النفسي والصحة المدرسية للأطفال"، في حين كانت الأمور صعبة على "حسام" الذي وجد نفسه بين ليلة وضحاها في لبنان، ملاحقا بلقمة العيش التي لم تترك له مجالا للتفكير إلا بكيفية تحصيلها، فعمل في فندق بادئ الأمر.
الحصار والجوع والظروف الصعبة التي وجدوا أنفسهم داخلها، دفعتهم للبحث عن خيارات لإثبات الذات تارة وبدافع المقاومة تارة أخرى، فليلى علمت في مدرسة كانت تعمل بها أختها لمدة أربعة أشهر، مدرسة لجميع المواد تقريبا (فيزياء، رياضيات، علوم..) لتحصل على خبرة أهلتها كي تصبح مديرة واحدة من رياض الأطفال في الغوطة المحاصرة، إضافة إلى عملها في أحد مراكز دعم النساء من خلال ابتكار أفكار "تساعد النساء في تأمين مردود مالي حتى ولو كان بسيطاً"، في حين انخرط "أبو مالك" في الرسم في مدينة داريا المحاصرة، وأسس مع أصدقاء له مكتبة "أصبحت هي المكان الذي نجلس فيه كي نقرأ ونتحاور في كثير من الأمور"، وهو يعمل اليوم على تطوير نفسه في "برامج التصميم والمونتاج, إضافة لذلك أنا الآن مشارك في دورة لتقوية اللغة الانكليزية"، في الوقت الذي تأقلم فيه الطبيب "محمد" مع حياته في ظل الحصار "لقد كنت في البداية من الأشخاص الذين يصابون بالدوار عند رؤية الدماء, ولم أكن في الوقت نفسه قادراً على ترك شخص يتألم دون مساعدة. أذكر أنني كنت أعالج طفلة فقدت أهلها وأصيبت بالشلل ذات مرة، لقد بكيت كثيراً يومها, لكنني اليوم لم أعد أتأثر كثيراً بسبب رؤيتي للكثير من الإصابات والمآسي، وأصبحت أحاول بكل طاقتي أن أنقذ المصابين دون الخوض في المشاعر".
خسارتهم مستقبلهم ودراستهم لم تجعل منهم كائنات سلبية، بل واصلوا عملهم وتحديهم مدفوعين بقوة الحياة، ليرسموا الفرحة على وجه الغير، فرغم عمله في المركز الطبي، يقوم محمد "بنشاطات ترفيهية وتنظيم حفلاتٍ للأطفال المصابين الذين قد تطول فترة شفائهم فيصابون بالملل. أفرح كثيراً عندما أرى البسمة على وجوههم، وأشعر بأني قمت بعملي وأني حققت إنجازاً عظيماً"، في حين تقول ليلى " أجمل ما في هذا العمل هو الشعور الرائع الذي يتملكني عندما أرى ضحكات الأطفال وفرحهم بالأشياء البسيطة التي نقدمها لهم، أما أصعب ما في هذا العمل، فهو أنني لا أستطيع إبعادهم عما يخيفهم ويؤذيهم كالقذائف وصواريخ الطائرات والجوع".
هذا الانشغال والفرح لا يخفي حجم الأسى المعشش في أرواحهم حين يتذكرون ما خسروا من أحلام ودراسات، فحسام حين ينتهي من عمله في السوبر ماركت يهرب نحو أوراقه ليرسم عليها، فهو لم يتعلم بعد كيف يصنع لوحة وخبرته قليلة فكل ما لديه هو الموهبة التي لا تترك له صعوبات المعيشة في لبنان وقتا لتنميتها، في حين يقول "محمد": "العالم في الخارج أصبح مجهولاً تماماً بالنسبة لي، ومخيفاً في بعض الأحيان. وبعد أن عشت لمدة عامين داخل الحصار، فإنني لا أعرف إذا ما كنت سأتأقلم معه، ولذلك أتمنى أن تتحسن الأحوال هنا، وأن لا أضطر للخروج" رغم أنه لا يخفي رغبته بمتابعة الدراسة، لنكون أمام عينة من أجيال سورية غادرت مقاعد الجامعات نحو مجهول مرير، إذ رغم صمودها ومقاومتها ونجاحها في مجالات أخرى، فإن هذا لا يقلل من حجم الكارثة حين يتم النظر إليها على المستوى الوطني، وهي كارثة ستكون مطروحة بقوة على أجندة أية حكومة بعد سقوط الاستبداد.
هذه الحكاية أنتجت بالتعاون بين حكاية ما انحكت والإنسان في سوريا وراديو سوريالي وجريدة سوريتنا.