ماذا تفعل المرأة السورية في ظل الحصار؟


10 حزيران 2015

"سنحت لي فرص كثيرة للخروج من الغوطة بعائلتي وأطفالي، لكنني كنت أرفض دائماً، وهو ما تسبب بعدة صدامات مع أفراد عائلتي. أنا مصرة على البقاء في البلاد بانتظار ساعة النصر".

هذا ما تقوله "رشا" البالغة من العمر ثلاثون عاما، وهي أم لطفلين (صبي وبنت)، ولا تزال تعيش في مدينة دوما مذ استقرت قبل الحصار، مقرّرة أن تهزم حصارها وتحوّله إلى واحة عمل من خلال عملها في مكتب التنمية الإدارية كمسؤولة عن الأعمال الإدارية، والقيام "بأعمال البحث العلمي والتحضير لمحاضرات وندوات ودورات إرشاد نفسي للمراهقات والنساء, إلى جانب الأعمال الإغاثية والدعم النفسي للأطفال"، لتكون بذلك نموذجا لحياة المرأة ومقاومتها الحصار في ظل شرط إنساني صعب وقاس.

وإذا كانت "رشا" وصلت الغوطة وقررت البقاء بقرار ذاتي، فإن حال "ليلى" يختلف، إذ وجدت نفسها محاصرة بعد أن قررت أن تقضي العيد مع أهلها، دون أن تتمكن من العودة إلى جامعتها، رغم أنها أنهت "أربع سنوات دراسية في كلية الهندسة الزراعية، كنت الثانية على طلاب دفعتي". دون أن يمنعها ذلك من الركون لليأس، فبعد أربع أشهر من الانتظار "تطوعت في مدرسة كانت تحتاج إلى مِّدرسين في منطقة نائية وفقيرة في الغوطة المحاصرة"، لتبدأ دورة البحث عن الذات عبر العمل على "رفع مستوى الطلاب الذين كانوا قد انقطعوا عن التعليم جراء الحصار"، لتقوم بتدريس جميع الفئات العمرية وجميع المواد الدراسية، ما أهلها لأن تصبح مديرة واحدة من رياض الأطفال التي تضم 250 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 3 و 5 سنوات.

رشا تجلس وسط الدمار في الغوطة الشرقية. المصدر: الإنسان في سوريا
رشا تجلس وسط الدمار في الغوطة الشرقية. المصدر: الإنسان في سوريا

رغم اختلاف تجربة كل من "رشا" و"ليلى" إلا أنهما تشتركان في امتلاك إرادة التحدي والمواجهة والعمل في الشأن العام، من خلال مد يد العون للكثير من النساء اللواتي "خَسرنَ أزواجهن، وأصبح عليهن أن يتحملنَ كل المسؤوليات، لذلك أحاول دائماً أن أشجع النساء وأدعمهن كي يتمتعن بالقوة والمعنويات اللازمة لمواجهة الظروف القاسية" كما تقول "رشا"، في حين تعمل "ليلى" ( إلى جانب الروضة) في "مراكز دعم النساء, حيث نحاول أن نبتكر أفكاراً تساعد النساء في تأمين مردود مالي حتى ولو كان بسيطاً، لأن كثيراً من النساء في غوطة دمشق فقدن أزواجهن في المعارك أو القصف أو سجون النظام، وبقين مع أطفالهن دون معيل  مما أدى لانتشار ظاهرة التسول من قبل النساء وأطفالهن على نطاق واسع, ونحن نسعى للحد من هذا الأمر بأن نعلّم النسوة بعض المهن التي قد تكفل قوت يومهن, مثل الخياطة أو التطريز أو الصوف أو الحلاقة، إضافة للتمريض والإسعاف الأولي".

أحيانا لا تحتاج النساء في الغوطة إلى أكثر من أن تجدن من أن يستمع إليهن، وهو ما تقوم به "رشا" التي تحرص على رفع معنويات النساء، مع الحرص "في انتقاء كلماتي, فأنا أؤمن بدور المرأة المهم وتأثيرها في المجتمع لأنها الأم والزوجة والأخت والابنة".

ليلى تنظر من أحد نوافذ الغوطة الشرقية. المصدر: الإنسان في سوريا
ليلى تنظر من أحد نوافذ الغوطة الشرقية. المصدر: الإنسان في سوريا

تتشابه "ليلى" و"رشا" في دعم العائلة لهن، وفي الجرح الذي أصاب شجرة العائلات هنا، فليلى لا تزال تحلم "أن ألتقي بأخي الذي اعتقلته قوات النظام ، فقد مضى وقت طويل على غيابه"، في حين تتذكر "رشا" بحرقة أخاها الذي "كان دائماً يقف إلى جانبي ويدعمني، لكنه استشهد تاركاً فراغاً كبيراً في قلبي.. استشهاده من أصعب اللحظات في حياتي، لقد بحثت عنه بين جثامين الشهداء، ووجدته في النهاية مكفناً وقد كتب على كفنه كلمة "مفقود".

 الصمود والقوة لا يخفيان التعب الذي يتسلل إليهن في غفلة الأمل، فعند كل صباح تتمنى "ليلى" أن تكون "في مكان آخر حيث الحياة أسهل, أو أن تكون الأمور قد عادت لطبيعتها... كل صباح هو بدايةٌ لمسلسل مصاعب تأمين الطعام والشراب، أخرج مسرعةً قبل أن يبدأ صراخ أبي، و بكاء أمي الحزينة على أخي الصغير الجائع. أخرج فأرى الأسواق شبه فارغة من كل شيء, والأشياء المتوفرة فيها قليلة الكمية ومرتفعة الثمن. أصل إلى الروضة أحياناً فأجد الأطفال يبكون من الجوع, أو يتشاجرون من أجل قطعة حلوى بيد واحد منهم. كان بعض الأطفال يفقدون الوعي جراء سوء التغذية ويسقطون أرضاً"، في حين عاشت "رشا" مواقف صعبة "أصعبها لحظات التقاط الصور للمصابين والضحايا جراء الهجمات بالأسلحة الكيميائية على الغوطة الشرقية، كان شعوري بالعجز قاتلاً".

رشا تعمل على اللابتوب في مكتبها في الغوطة. المصدر: الإنسان في سوريا
رشا تعمل على اللابتوب في مكتبها في الغوطة. المصدر: الإنسان في سوريا

لحظات اليأس المتسللة هذه تقاوم بالمزيد من العمل، حيث تشرف "رشا" على إعداد مجلة شهرية تحت اسم "تعوا ننسى" تقوم بها ثلاث شابات تتراوح أعمارهن بين الـ 14 وال 18 دون أن تصدر لوجود "مشكلة في تغطية التكاليف"، كما أنها تقوم بجولات ميدانية على المدارس، وتسجل ملاحظات عن أوضاع الطلاب النفسية وحالتهم الاجتماعية, بمساعدة فريق مكوّن من أربعة عشر فتاةً وامرأة, يقمن بأنشطة متعددة لمساعدة النساء والتخفيف عن الأطباء من "خلال متابعة كثير من الحالات النفسية التي تأتينا، وإطلاع الأطباء على نتائج متابعتنا بشكل دائم"، وذلك رغم إدراكهن أن "عملنا لن يؤدي إلى النتيجة المرجوة منه بشكل كاملٍ بسبب الأوضاع الأسرية والاجتماعية الصعبة والمعقدة في ظل الحصار، ومن أسباب ذلك أن عددنا ليس كبيراً بما يكفي لتغطية جميع الاحتياجات، وخاصة في الأحياء الشعبية الفقيرة حيث تكون الأوضاع أكثر تعقيداً وصعوبة".

 إلا أنهن يواصلن العمل كنوع من شحذ الأمل والرضى عن الذات الذي يحصل حين ترى ليلى "ضحكات الأطفال وفرحهم بالأشياء البسيطة التي نقدمها لهم"، وحين ترى "رشا" "الابتسامة على وجه طفلٍ قدمت له المساعدة، وسماع دعاء امرأة ساعدتها على الخروج من محنتها، وشعوري بالرضا بعد إلقاء محاضرة تركت أثراً طيباً على نفوس وحياة الأشخاص الذين استمعوا إليها"

رشا وليلى: نموذجان لامرأة سورية تقف صامدة في وجه الحصار، ساعية لكسره وتحديه، معلنة أنها لن تستسلم "سواء جاءت مساعدات من الخارج أم لا، وسواء تم كسر الحصار أم لا, وسواء شعر الناس خارج الحصار بمعاناتنا أم لم يشعروا".

أنتجت هذه القصة بالتعاون بين "حكاية ما انحكت" و"الإنسان في سوريا" وراديو "سوريالي" وصحيفة "سوريتنا".

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد