لاشيء يقف في طريق الحلم حين ترافقه الإرادة. لا القوة ولا العنف ولا الدكتاتورية قادرة على كسر إرادة الإنسان، حين يقول: "اليوم، وقبل أن أنهي كتابتي كنا في أريحا بعد غارة حربية حوّلت بناء خمس طوابق إلى ركام. وبسبب عدم توفر المازوت حفرنا بأيدينا، ونحن نتفرج على آليات تقف بجانبنا دون حراك. إحساس بالقهر والموت، ومع ذلك تابعنا، ونحن مستمرون مهما كان الخطر ومهما كانت الصعاب كبيرة، إن كان هناك دعم أو لا يوجد دعم مستمرين بواجبنا إلى أن يتم النصر والحرية لبلدنا من كل الطغاة والقتلة" كما يقول "ليث العبد الله" لحكاية ما انحكت.
حين صرخ السوريون حرية، ظن النظام أن عنفه سيكون قادرا على كسرهم، وحين أخطأ عنفه الطريق استخدم مزيدا من العنف لإغراق الناس في الفوضى والدمار والإغاثة والجوع، توقعا منه أن غرقهم في تفاصيل شؤونهم اليومية سيدفعهم للتخلي عن الحرية، فضلّ عنفه الطريق مرة أخرى، حين تمكنوا من اختراع آليات مقاومة لكل حالة وظرف، فكلما توغل عنفه أبدعوا أكثر: لا مجال للتراجع. هذا ما تقوله حكاية فريق الدفاع المدني في مدينة سراقب الواقعة في الشمال السوري، فحين فشل النظام في إخماد أصوات الحرية ودفاتر العشاق المرسومة على الجدران، استخدم عنفا مفرطا طال البشر والحجر والجماد والبيوت التي هدمت فوق رؤوس ساكنيها بالقصف والبراميل، ما دفع مجموعة من شباب المدينة للمسارعة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح المنتظرة تحت الردم.
وقصفا بعد قصف، وبشكل عفوي تشكل فريق إسعاف "بدون ترتيبات ودون معرفة سابقة عميقة" بقيادة "عماد" وأربع شباب، بينهم "ليث العبد الله" الذي انضم للفريق حين شاهد قذائف الدبابة "تصيب من تصيب وتقتل من تقتل. لن أنسى أول شهداء ذلك اليوم عند زاوية في السوق.. منذ تلك اللحظة وحتى اليوم لم أفارق العمل الإسعافي الذي وجدت نفسي فيه .. وتابعت مع مجموعة من الشبان العمل حتى تمكنا من تشكيل فريق إسعاف له مكانته المعتبرة الآن في سراقب والمنطقة كلها".
لم يكن للفريق إلا سيارة "بيك آب" يستخدمونه لنقل المصابين بعيدا عن مناطق الخطر، إلى أن تبرع أحدهم بسيارة إسعاف جاءت بعد أن استشهد مؤسس الفريق الذي يصفه ليث بأنه "أكثر زملائنا شجاعة" بعد سقوط قذيفة مكان سقوط القذيفة الأولى حين هرع لإنقاذ المصابين، ليصبح اسم فريقهم الإسعافي فريق "الشهيد عماد الوطني للإسعاف"، متابعين عملهم في نقل المصابين من مشفى لآخر ضمن المدينة وإلى المشافي الحدودية، بل باتوا يصلون إلى مناطق أبعد من الريف الإدلبي.
إلا أن "ازدياد قسوة القصف والانفجارات مع دخول مرحلة البراميل المتفجرة والصواريخ الحربية" خلقت واقعا جديدا لا تكفي أدواتهم البسيطة للتعامل معه، إذ "كان الدمار كبيراً والشهداء والمصابون يعلقون تحت الأنقاض، ولذلك تحوّل عملي إلى الإنقاذ إضافة للإسعاف، وكان أول من حفرت لإخراجه من تحت الأنقاض أخي الذي استشهد أمام بيتنا جراء غارة جوية قاتلة" كما يقول ليث لحكاية ما انحكت، متابعا "بعد فقدان أخي وإصابة أفراد عائلتي وتشردنا من بيت لآخر، ومع استمرار الحملات التدميرية القاتلة جهزت نفسي مع مجموعة شباب وشكلنا فريق دفاع مدني توليت فيه قيادة فريق الإنقاذ".
التحوّل من فريق إسعاف بإمكانيات محددة إلى مؤسسة دفاع مدني بفرق متعددة لم يأتي من واقع الدمار الهائل الذي فرضته آلة الحرب الاستبدادية فحسب، بل بسبب بعض الأخطاء التي حصلت جراء ضعف إمكانيات الفريق، ففي "إحدى الحملات التدميرية القاسية حصلت مجزرة تحت أنقاض أحد البيوت. والعمل العشوائي الغير منظم كانت له سلبيات مما دفعني للعمل على تشكيل فريق دفاع مدني بعد أن صار مطلبا ملحا أن يكون لدينا فريق مدرب وجاهز بمعداته".
هذا الأمر دفع ليث وفريقه للتواصل مع أكثر من منظمة وجمعية "حتى استطعنا الوصول لهيئة الدفاع المدني السوري، وتم تشكيل فريق رسمي وتم تزويده بالمعدات اليدوية ومن ثم بآلية ثقيلة عبارة عن تركس مزود بباكر وبات الفريق يمتلك خبرة كبيرة في عمليات الإنقاذ، وتطور ليكون فيه فوج إطفاء بعد تجهيز اطفائية قديمة"، لنصبح أمام فريق متكامل عزز خبراته بدورات تدريبية بالإسعاف والإطفاء والإنقاذ تكللت بالخبرة المتكسبة من العمل الجدي و مواجهة الخطر خلال الحملات التدميرية القاتلة المستمرة على المدينة. هذه الخبرة تتجلى بوضوح في التقسيم الذي وصله الفريق، فهو موزع بين أربع فرق: إسعاف، إنقاذ، إطفاء، إخلاء. تطوّروا من الصفر، ففريق الإسعاف الأول تحوّل إلى فريق للإنقاذ ساعدهم في ذلك أن "معظمنا ذوي مهن يدوية قبل الثورة وحتى الآن"، في حين جاء الإطفاء وليد حاجة "خصوصا في مواسم الحصاد فهناك الكثير من الحرائق الزراعية التي تتطلب وجوده". أما فريق الإخلاء وهو أحدث الفرق المشكلة فجاء نتاج ظروف جديدة هي الضربات الكيماوية وتحرير مناطق جديدة يتم قصفها من قبل الطيران كإدلب المدينة وأريحا، حيث عمل الفريق على إخلائها من المدنيين.
الفريق الذي بدأ كمتطوعين حصل على الأجهزة والمعدات من هيئة الدفاع المدني السوري التي قدمت رواتب لأربعة أشهر للفريق فقط، ليتابع عمله معتمدين على استمرار المصاريف التشغيلية للمعدات والآليات التي لا تصل بشكل منتظم أيضا، مما يدفعهم للحفر بأياديهم في كثير من الأحيان، في الوقت الذي يتدبرون فيه أمورهم المعيشية من خلال أعمال خاصة يقومون بها، دون أن يخلو الأمر من دعم "بعض الأخوة والأهالي سواء بمعدات أو بمحروقات وكذلك نتعاون مع المجلس المحلي لتأمين الوقود للآليات وإصلاحها.. ما عاد همنا الأول هي رواتبنا بقدر تأمين استمرارية العمل".
نسيانهم الخوف وتأقلمهم مع قسوة الحياة أضحى أمرا طبيعيا بالنسبة لهم "فنحن آخر من يخرج من المدينة أثناء حملات القصف، وأول من يدخل لحظة القصف المروحي". إلا أن هذا لم يمنع الموت والخطر عنهم إذ خسر فريق الإسعاف الأول مؤسسه وطبيبين ومسعفا خلال "عمليات القصف أو بمعارك كنا ندعمها كنقطة طبية متأخرة.. وهناك أحد الشباب المسعفين بترت ساقه من انفجار قذيفة ليست بعيدة عنه ومازال يتابع عمله بقدم صناعية"، في حين تعرّض فريق الدفاع المدني للخطر في حالات القصف "لدينا شهيد ومصابين كما تعرّضنا للإصابة بالكيماوي أثناء عمليات الإسعاف وحتى الاحتراق أثناء إطفاء حريق كبير".
رغم هوّل الخسائر البشرية والمادية التي يتعرضون لها، ثمة نزيف لامرئي يحفر أرواحهم بسكين الألم، و يمدهم بنفس الوقت بصلابة إنسانية لا يعرفها إلا من عاش تفاصيلها، إذ كيف تخرج من "ذاكرتي قصة طفلة صغيرة كنت أعمل على انتشالها من تحت الأنقاض، وبعد ساعتين من الحفر باليدين، وأحياناً بالأصابع، أخذت الطفلة تصرخ بصوت مرتفع جداً، فناديت للمسعف كي يعطيها إبرة مسكن للألم، فتوقفت عن الصراخ فوراً، وقالت: "خلص عمو بتحمل الوجع ما بدي إبرة " أو ينسى وجوه أولئك المدفونين تحت سقف من طابقين، إذ "كنا نخرج شهيدة أو مصابة فنرى تحتها طفلها أو العكس. و كلما أخرجنا أحد نجد تحته آخرين. ومن بين المصابين سيدة غير مشاهدة ولا نسمع إلا صوتها. بقينا نحفر بأيدينا حتى وصلنا لها واستمرت عملية إنقاذها ساعتين ونصف. كان الحفر فقط بالأصابع واليدين بسبب ضيق المكان وخطورة أن نرفع السقف الذي يبعد عن الأرض مقدار 50سم فقط".
هول هذه اللحظات الممزوجة بالخوف من ألا يتمكنوا من إنقاذ تلك الروح التي تصرخ، تتحول إلى "اللحظات الأجمل في حياتي عندما أنقذنا ستة أحياء من تحت الأنقاض وآخرهم أخذ منا أربع ساعات عمل". إنها إرادة البشر حين تتجلى فيهم إرادة كن فيكون. ورغم ذلك يجدون وقتا للفرح، إذ "نعود لمركزنا كل يوم لنتابع لعبنا مع قطتنا الصغيرة. واسمها قمجونة"، وللمشاركة في فعاليات متعلقة بالأطفال والتعليم وغيرها.
غرقهم في عالم الموت يجعلهم أكثر تمسكا بالحياة والحرية.
أنتجت هذه القصة بالتعاون بين حكاية ما انحكت والإنسان في سوريا وراديو سوريالي وجريدة سوريتنا.