"يبقى بعض القمح لنبقى".
عبارة تكاد تختزل إرادة البقاء والتشبث بالحياة بوجه الموت.
عبارة تكثف لحظات المحاصرين وأوجاعهم، أساليب مقاومتهم التي يسعى الدكتاتور لوأدها ليدمرهم فيأبوا الموت، ويخرجون من بين الركام ليعيدوا الزرع والحصاد كما كان يفعل أجدادهم، مع فارق أن الأحفاد معرضون لطائرات وقذائف مدفعية تتسبب بقتل "كميات كبيرة من المحاصيل التي تعيننا على مقاومة الحصار"، ما دفعهم لحماية المحاصيل كما يحمون أنفسهم، وكأننا أمام شعب يكاد يسجل براءة اختراع في حماية المحاصيل من القصف!
مع إحكام النظام قبضته على مداخل ومخارج مدينة داريا في غرب دمشق، تمكن من إخضاع الناس لحصار رهيب ضمن سياسة "التركيع والتجويع" التي يعتمدها لدفع الناس للاستسلام له. ما دفع المحاصرون بدورهم للبحث عن كيفية مقاومة الجوع، إذ بدؤوا البحث عن بدائل ذاتية.
ولأن الخبز هو المادة الأساس في الطعام كان التفكير بكيفية الحصول على القمح، ما دفعهم للبحث عن آليات تعينهم على زراعة القمح وحصاده دون أن يتمكن النظام من حرقه.
قرر المجلس المحلي في مدينة داريا أن يقوم بزراعة القسم الأكبر من الأراضي في المدينة بالتعاون مع الأهالي وبعض أفراد "الجيش الحر"، دون مصادرة حق الأفراد بأن يقوموا بالزراعة، علما أن البعض يقوم "بزرع أرضه شراكة نظرا لصعوبة تأمين الوقود اللازم لاستخراج المياه، ومنهم من يزرع أرضه لوحدة ويبيع محصوله للناس وحدهم إن أرادوا" كما يقول لحكاية ما انحكت "أبو خالد" وهو أحد أعضاء المكتب الإغاثي في مجلس داريا المحلي.
تبدأ زراعة القمح لدى الأهالي في فصل الخريف، إذ يقومون بحراثة الأرض وتهيئتها للزراعة عبر ما تبقى من محاريث آلية في المدينة ثم يبذرون القمح ويبدؤون عملية السقاية عبر طرق بدائية تعتمد أسلوب الجداول وضخ المياه عبر "مولدات الماء التي تعمل على المازوت" الذي يتم الحصول عليه بصعوبة بالغة، وإن لم توجد يتم الاعتماد على الأمطار، علما أنهم قد يضطرون للزراعة وحراسة القمح ليلا كي يتمكنوا من إنقاذ ما يمكن إنقاذه إذا قصفه النظام وأشعل فيه النيران "حيث قاموا مرة بتشغيل المحراث، وحرث جزء منه بشكل طولي أمام النار التي اشتعلت به جراء القصف لمنعها من التهام كامل المحصول" كما يقول أبو خالد لحكاية ما انحكت.
الملفت في الأمر أنه بعد عملية الحصاد أو حصاد ما تبقى من القمح، يقوم المجلس المحلي بتوزيعه بشكل متساوي على الناس، وكأننا أمام اشتراكية الحصار أو الأمر الواقع، فهذا الذي يبقى من القمح بعد القصف يكفي لكي يبقى الأهالي على قيد الحياة، لذا كتبوا ما بدأنا به مقالنا هذا: "يبقى بعض القمح لنبقى".
كتبت هذه الحكاية بالتعاون مع حكاية ما انحكت والإنسان في سوريا وراديو سوريالي وجريدة سوريتنا.