طالما كان النشطاء المدنيون هم الأخطر على نظام الاستبداد، لأنهم محرضو المجتمع على التظاهر وصمام أمانه بوجه العنف والغرائز، والمساعدون على صموده ومده بكل أنواع الطاقة والحلول حين تضيق الأحوال. ولذا عمد منذ البداية إلى خنق صوتهم اعتقالا وتنكيلا وقتلا. ولعل حكاية داريا مع نشطائها تعد دليلا على لعبة التحدي بينهم وبين النظام، فكلما قتل ناشط ولد آخر، من جيل غياث مطر الذي استشهد تحت التعذيب وزميله المعتقل "يحيى شربجي" إلى الصحفي الشهيد "محمد قريطم" مبتكر تظاهرة الفزاعات، وليس انتهاءا بما تبقى في المدينة المحاصرة والتي تتعرض لشتى أنواع الموت ( تجويعا وقصفا وحربا يومية). هذا الموت الذي يحاصر قلة من النشطاء الذين صمدوا حتى خط النهاية الأخير، ولكنهم اليوم في خطر، إذ تعرض ثلاث منهم في الأسابيع الأخيرة لإصابات مباشرة.
"عمر" شاب من داريا تطوّع في الدفاع المدني ورفض الخروج من المدينة، واضعا كل جهده في خدمة المدنيين وانتشال الضحايا ومن تبقى حيا من تحت الركام.
"عمر" الذي كان يسارع نحو الموت لإنقاذ البشر من براثنه، هاهو يحاذي الموت اليوم، إذ تعرض للإصابة بقذيفة مدفعية حين كان يقوم ببناء سواتر لحماية المدنيين من آثار القصف، فخسر يده ورجله وبعض أصابع يده الثانية، منازعا الموت ليلا إثر ليل.
"أبو العز" الذي كان له فضل كبير في ولادة مكتبة داريا التي تحدثنا عنها في وقفة خاصة في حكاية ما انحكت، هاهو اليوم يتعرض لإصابة بليغة بسبب برميل متفجر وقع بجانب المكتبة التي أسسها مع رفاقه، حيث أدى ضغط البرميل إلى إصابته.
الأذى الأكبر أصاب الرأس، حيث لا يقدر أحد أن يعرف عمق ومدى أذى الإصابة لانعدام الأدوات الطبية المتخصصة بتصوير الرأس، في حين أنه ما زال يعالج بأدوات بسيطة جدا، وهو يتحسن ببطء.
"رسام داريا الصغير" كما نسميه نحن، أو "أبو مالك" كما يسميه أصدقاؤه، والذي طالما رسم البهجة ووزع الألوان على جدران مهدمة ليبث فيها حياة ما تمنح الأمل لمن بقي في المدينة، ولتكون رسالة المدينة إلى الخارج، أصيب بطلقة قناص في كتفه و صدره، حيث وقع الضرر على الرئة ما جعله يتنفس من معدته اليوم، إضافة إلى كسر بالكتف والريش بالصدر.
طالما شكل النشطاء الثلاثة وآخرون معهم عامل توازن داخل المدينة المحاصرة، عينهم على المدنيين وعلى إبقاء فكرة الثورة حية، واضعين جهدهم وحياتهم في خدمة من تبقى من مدنيين، وقائمين بعبء مدينة تنوح تحت وطأة الحصار والموت، يحاولون حماية أهلهم وأحبائهم برموش قلوبهم، وإذا عجزوا يشيعونهم بحزن سريع إلى قبورهم، إذ ليس لهم ترف الحزن البطيء، فلديهم مهمة إنقاذ من تبقى وتعزيز صمودهم.
هؤلاء اليوم في فم الموت. فلنعمل على إنقاذهم بشتى السبل وتعزيز صمودهم.
لأن الاحتمال البديل لا نجرؤ ربما على التفكير فيه.
أنتجت هذه الحكاية بالتعاون بين "حكاية ما انحكت" و "الإنسان في سوريا" وراديو" سوريالي".