صلوا لباسل.. صلوا للحرية


04 تشرين الأول 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

مجرد سطران، كانا كافيان لنغادر وهم الطمأنينة الذي نقنع فيه أنفسنا وسط حديقة سوريا المسوّرة باستبداد سلطوي تكامل مع استبداد داعشي وتحالفات ترمينا بصواريخ ذكية تصيب أطفالنا ولا تصيب داعش التي أضحت القوة الكبرى/المزيفة في عالم اليوم الذي لم يتخيله كتّاب ألف ليلة وليلة المجهولين، ولا جحيم دانتي وأبي العلاء المعري مجتمعين.

هما سطران كتبتهما زوجة المعتقل باسل الصفدي على صفحتها تعلن فيهما أن دورية أمن جاءت إلى سجن عدرا لتعتقله (وهو المعتقل) إلى مكان مجهول، هو أحد أفرع الموت الأمنية المنتشرة بما تبقى من بلاد محكومة بجنون الطاغية. هكذا في سوريا الأسد وحدها، يعتقل المعتقل مثنى وثلاث ورباع!

وحده من يعرف الفارق بين سجن عدرا والمعتقل الأمني يدرك معنى هذا الكلام، ففي عدرا أنت قريب من الموت حد أن تبقى حيا مع وقف التنفيذ، وفي الآخر أنت ميت إلى أن تخرج. يشبه الأمر الولوج من محيط دائرة جهنم من خارجها إلى مركز الدائرة بكل ما يعنيه المركز هنا من صلف وتوحش وجنون.

باسل الذي اعتقل بالذكرى السنوية الثانية للثورة (15/3/2012)، وقاوم اعتقاله بالصمود في منفردة فرع الموت العسكري لثمانية أشهر، والقراءة المتواصلة في سجن عدرا بعد أن أحيل إلى محكمة ميدانية لم تصدر حكمها حتى اليوم، يعود اليوم ليواصل درب الجلجلة السوري الصعب والشاق، لأجل حرية حلم بها، وضاعت في زواريب السياسة والدول والإرهاب والفاشية، ليأخذ قلبنا معه، ويذكرنا بأن لا أمان لاستبداد طحن البلاد والعباد، وإن شملتك رأفة "عدرا" الوهمية، والتي صرنا نتمناها لأي معتقل موجود في أفرع الموت، أليس هذا هو الجنون؟ نعم ولكنه الممكن الوحيد في سوريا اليوم، ولهذا نتشبث به.

عادة، حين ينقل المعتقل من عدرا بعد فترة اعتقال طويلة يكون الأمر تهيئة لخروجه، كما حصل مع بعض المعتقلين مؤخرا (مازن درويش، حسين غرير، هاني الزيتاني...)، ولذا نأمل أن يكون الأمر كذلك وليس مجرد رحلة اعتقال جديدة!

إلا أن التجارب مع نظام الفاشية الأسدية علمتنا أيضا أنها حين تشعر بالقوة والصلف تزداد تشددا مع معارضيها السلميين خاصة، وهذا ما حصل في عدة محطات من نضال المعارضة ضد الاستبداد، وهو ما حصل مع باسل نفسه حين نقل من عدرا إلى صيدنايا لمدة شهر، ليعاد إلى عدرا، فهل جاء التدخل الروسي الأخير ليدشن مرحلة جديدة من تعاطي النظام مع معارضيه، ليوحي بأنه استعاد "هيبته" التي أجبرته ظروف الثورة على التخلي عنها، لبيع الوهم بأنه "تغيّر" وهو الذي لم يتغيّر أبدا!

"صلوا لباسل"، هذا ما قالته زوجته نورا في ختام ما كتبت، بنبرة العجز الذي نقع كلنا فيه اليوم، إذ رغم مقاومتهما اليأس متشبثين بالأمل القادم، بأن أعلنا زواجهما وهو في المعتقل وهي خارجه، مكتفيان من حبهما بما تجود به عدرا من زيارات ممنوعة في الأماكن الأخرى، قائلة أن "الحب يفعل المستحيل",وهاهي الدائرة تعود لتغلق اليوم على يأس وعجز يحيطنا من كل الجهات، تضيق على حب خارج عن المألوف، في زمن الاستبداد الذي ينفر من الحب والجمال وكل ما هو طبيعي، فالاستبدا هو ابن شرعي للحظة الاستثناء التي عاشها السوريون عقودا مديدة: ذلا وصمتا وقهرا، إلى أن انبثقت لحظة الحرية التي لم تنته بعد بكل ما صاحبها من أمل ممزوج بيأس وعجز يصيبنا اليوم، إذ ليس هناك أبشع من أن تجد نفسك عاجزا عن تقديم شيء لمن يستنجد بك وهو في هوّة الموت يغرق.

"صلّوا لباسل"، فلنصل جميعا، مؤمنين وملحدين، فللحرية صلاتها الخاصة أيضا، وهي الصلاة التي لم يزل يتلوها السوريون مذ صرخوا "خاين يلي بيقتل شعبو"، هي صلاة لكل معتقل لم يزل عالقا في جحيم الاستبداد الأسدي.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد