أن يخرج شاب في مدينة دوما المحاصرة بالموت والجوع وطائرات الروس وحواجز النظام ومليشياته بما فيها حزب الله (المقاوم سابقا)، ليكتب على جدار مهدّم "حرية، كرامة، مع القدس، الانتفاضة الثالثة، دوما"، معبّرا بذلك عن تضامنه ( وهو الذي يحتاج من يتضامن معه) مع أهالي فلسطين ضد ما يتعرضون له على يد برابرة العصر: الصهاينة، فهذا يعني أن ثمة رسائل كثيرة تقولها الحادثة.
أولها: أن روح المقاومة بأشد أشكالها لازالت مختزنة في روح السوريين، إذ لم تقدر كل جرائم الاستبداد ومعهم الغرب وإسرائيل إبعاد السوريين عن قضيتهم فلسطين، التي لطالما كانت جزءا منهم، بعيدا عن احتكار النظام لها ومتاجرته بها طيلة عقود.
ثانيها: إدراك السوريين أن الحرية من الاستبداد والتحرر من المستعمر وجهان لعملة واحدة، فلا حرية إن كانت البلاد محتلة من مستبد أو محتل، ولا تحرر حقيقي دون حرية، ما يوصلنا إلى إشكالية المقاومة (حماس وحزب الله) التي ارتهنت لمعادلة المستبد في تحرير الأرض، فكان أن تحولت إلى بيدق ميليشاوي بيد هذا النظام أو ذاك، ناهيك عن اندراج مقاومة الأمس في معادلة العدو نفسه، من خلال إعلان الروس عن تشكيل "خط ساخن" بين مطار حميميم في مدينة اللاذقية (حيث تتواجد القوات الروسية) وتل أبيب، ما يعني أن السوريين والفلسطينيين اليوم يعيدون تصويب المعادلة، لتكون حرية وتحررا في آن، بعد أن كانت سابقا معادلة عرجاء، استغلتها الأنظمة لتقول بتحرير فلسطين مقابل كم الأفواه، عبر الشعار الشهير "لاصوت يعلو على صوت المعركة"، أو التي سارت بها بعض المعارضات بالتحرر من المستبد ليصار إلى تحرير فلسطين ثانيا، فالمعركتين في الحقيقة هما معركة واحدة، لايمكن تحقيق أحدهما دون الانتباه إلى تأثير الثانية في المعادلة، فهي عنصر أساس لا يمكن استبعاده.
ثالثها: طالما اتهم النظام والمليشيات الموالية له أن المعارضة السورية تخدم مصالح إسرائيلية، لتأتي هذه الصورة وتقول العكس تماما، فحسابات السياسيين المراوغة غير حسابات الشعب المقاوم الذي يدرك أعداءه جيدا (الاستبداد والصهيونية)، إذ تأتي العبارة المكتوبة لتقول أن السوريين وبأحلك لحظاتهم يحييون فلسطين ويدركون أن الصهيونية خطرا على حريتهم، فإسرائيل يستحيل أن تكون تريد حرية ودولة ديمقراطية للسوريين، وهذه مسلمة تؤكدها عبارات الشاب، لتكون شوكة بكل ما يربط بين الثورة السورية وإسرائيل.
رابعا: إن التأمل في الصورة التي يكتب عليها الشاب الدوماني عبارته، والتأمل في صور المقاومين الفلسطينيين، سيبين بما لا يدع لنا مجالا للشك بأن حجم الدمار الحاصل في مدينة دوما أكبر مما أحدثته آلة الدمار الإسرائيلية، ما يعني أن جرائم الاستبداد السوري فاقت وبما لا يقاس جرائم المحتل الإسرائيلي، وهذا الكلام ليس تبرئة للمحتل الإسرائيلي فهو مجرم وقاتل ومغتصب أولا وآخرا، إلا أنه إدانة لمستبد فاق الاحتلال بجرائمه، ومن هنا إصرار السوريين على إطلاق صفة الاحتلال عليه.
تزامن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة مع التدخل الروسي في سوريا والحديث عن الخط الساخن بين تل أبيب والقاعدة الروسية في مطار حميمم عرّت كل الأوراق، وجعلت الفرز واضحا وسهلا لمن يريد أن يرى، إذ لا عذر بعد اليوم لأحد، فالمعركة لا بد أن تكون ضدهما معا، معركة الحرية والتحرر، ما يعني أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة جاءت لتكون رديفا للثورة السورية، كما أن الأخيرة في أحد جوانبها هي ثورة على نظام مستبد اكتشف السوريون كذب مقاومته وممانعته بعد أن تاجر بهما طويلا، فسعوا لإسقاطه لنيل حريتهم وتحررهم منه، دون أن يغفلوا عن فلسطين التي يحييونها وكأنهم يعتذرون عن تقصيرهم بحقها.