الحكم الذاتي في روج آفا


27 تشرين الأول 2015

صبر درويش

كاتب وصحفي سوري. يكتب في عدد من الصحف العربية. من آخر أعماله تحرير كتاب "سوريا: تجربة المدن المحررة".

مقدمــة

نشط تاريخياً في مدينة القامشلي، عدداً كبيراً من الأحزاب الكردية وغير الكردية، وبرز منها مجموعة من الأحزاب التي لعبت دوراً فاعلاً ومحورياً في أحداث المدينة، وبالتحديد في أحداث انتفاضة عام 2004، التي خاضها الأكراد ضد نظام الأسد، في تلك الأثناء. وعند انطلاقة الثورة السورية سنة 2011، أعادت العديد من الأحزاب الكردية النافذة هيكلة وتنظيم صفوفها، وانخرطت في الحراك الثوري من موقع الفاعل النشط في الأحداث الجارية، وكان لها اليد الطولى في تنظيم شؤون مدينة القامشلي وفرض السيطرة عليها، تحديداً بعد انسحاب قوات الأسد من أغلب أجزائها.

وفي التاسع عشر من تموز سنة 2012، تمكنت القوى الكردية المختلفة من بسطت سيطرتها على أجزاء واسعة من المدن السورية التي تمتاز بكثافة كردية عالية، شمال شرق سوريا، ومنها بطبيعة الحال كبرى المدن السورية القامشلي. وبعد انسحاب قوات الأسد من هذه المدن، انسحبت أيضاً مؤسسات الدولة المختلفة، وسعت القوى السياسية والمدنية إلى ملء هذا الفراغ المؤسساتي، عبر أشكال مختلفة من التنظيم الذاتي لشؤون المدنيين في هذه المناطق.

وبين منتصف عام 2012، وحتى بداية 2014، بقيت أشكال التنظيم الذاتي في هذه المناطق غير مكتملة، رغم أنها شكلت محاولات جادة من أجل بناء سلطات ذاتية لإدارة شؤون المدنيين. فتأسس في تلك الأثناء مجموعة من الهيئات والكيانات السياسية والمدنية، من أجل سد هذا الفراغ المؤسساتي، فتأسس بدايةً "حركة المجتمع الديموقراطي" في 16- 12-2011، وبعده تشكل "مجلس شعب غرب كردستان" في 19-12-2011، وانبثق عن هذين الكيانين مجموعة من المجالس، والتي دعيت "بمجالس المناطق والمدن"، والتي أيضاً انبثق عنها مجموعة من الهيئات التي دعيت "بالكومونات"، ولعبت دوراً في إدارة شؤون الأحياء والقرى والبلدات السورية التي وقعت تحت سيطرة قوى المعارضة الكردية.

وفي كل الحالات، جرت مشاركة واسعة من قبل الأحزاب الكردية المختلفة، ومن ناشطين مستقلين، ومن ممثلين عن الشباب الثائر، وممثلين عن المرأة.. إلخ، وسعت القوى السياسية والمدنية إلى تقديم تجربة ديموقراطية في إدارة الحكم الذاتي عبر هذه المؤسسات الوليدة؛ وفي الوقت الذي نجحت فيه هذه الهيئات في ترسيخ ممارسة ديموقراطية وليدة بدورها، تعثرت بعض هذه الهيئات في أماكن أخرى. وفي أغلب الحالات، كانت الخلافات السياسية التاريخية بين العديد من الأحزاب الكردية تقف خلف هذا التعثر، حيث انعكست خلافاتها السياسية داخل أبنية المؤسسات حديثة النشأة.

وبعد مضي نحو عامين، على ولادة هذه التجارب، التي أريد لها أن تكون تجارب ديموقراطية ناجحة، عبر تقديم نموذج يحتذى به في إدارة "المدن المحررة"، ولد، وعلى قاعدة جملة هذه التجربة، "مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية"، والذي أعلن عن تأسيسه في 21-1-2014، بمبادرة من العديد من القوى والفعاليات السياسية والمدنية في روج آفا، والتي كان على رأسها حزب الاتحاد الديموقراطي المعروف اختصاراً بحزب "PYD".

مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية

بمبادرة من قبل حزب "الاتحاد الديموقراطي الكردي"، تمت الدعوة من أجل الانتقال إلى المرحلة الثانية من إدارة مناطق روج آفا، حيث تم تقديم مشروع "الإدارة الذاتية الديموقراطية"، ليكون الخطوة الأكثر نضجاً في إدارة الحكم الذاتي. وذلك بناءً على "ميثاق العقد الاجتماعي"[1] الذي تمّ تشكيله بالاتفاق بين كافة المكونات المتواجدة في روج آفا في وقت سابق؛ وضم مشروع الإدارة الذاتية 52 حزباً ومؤسسة وتنظيم وتنظيمات شبابية ونسائية[2].

في تاريخ 13 آب 2013 أعلنت الرئيسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي "آسيا عبد الله" وفي مؤتمر صحفي في مدينة القامشلي، عن انتهاء المرحلة الأولى من الحكم الذاتي (التي امتدت بين منتصف عام 2012 وحتى منتصف عام 2013)، والشروع في المرحلة الثانية، وتشكيل هيئة تشريعية مكلفة بتشكيل هيئة إدارية انتقالية للمنطقة[3].

وعلى قاعدة ذلك، اتفق مجلس شعب روج آفا والمجلس الوطني الكردي في سوريا، على تبني المشروع، والمباشرة في تنفيذه. وفي الثامن من أيلول من عام 2013، اتفق المجلسان على تنفيذ مجموعة من البنود التي تم التوقيع عليها، والتي أقرّ فيها: تشكيل لجنة لصياغة مسودة الدستور المؤقت بعد التوافق عليه من كل المكونات في مدة أقصاها 40 يوماً. تشكيل هيئة مؤقتة مؤلفة من مجموعة من الأعضاء الذين يمثلون الأطراف المشاركة، ويترتب على هذه الهيئة مهمة القيام بتشكيل الإدارة الديموقراطية المرحلية، بعد إنجاز دستور مؤقت[4].

ورغم الدعم الذي حظي به مشروح الإدارة الذاتية من قبل العديد من الأطراف في المنطقة، إلا أنه واجه ومنذ لحظة انطلاقته اعتراض الأحزاب الكردية المنضوية في "المجلس الوطني الكردي"، فبعد أن شارف المشروع على رسم خطوطه الأخيرة وقبل الإعلان بشكل رسمي عنه بيوم واحد، انسحبت بعض أحزاب المجلس الوطني الكردي منه، ولم يصدر عنها بياناً تشرح فيه سبب هذا الانسحاب، بينما انضم من المجلس: حزب اليسار الكردي في سوريا (محمد موسى)، وحزب اليسار الديمقراطي الكردي في سوريا (صالح كدو)، إلى الإدارة، إلا أن المشروع استمر بالعمل، ولم يتأثر بشكل كبير بسبب هذه الانسحابات.

مؤسسات ديموقراطية وليدة:

في الثاني عشر من تشرين الثاني سنة 2013، تم الاعلان عن ولادة أول مؤسسة تابعة للإدارة الذاتية، والتي سميت "بالمجلس العام التأسيسي للإدارة المرحلية المشتركة"، والتي ضمت 86 عضواً[5]، وانبثق عنه هيئة دعيت "بهيئة متابعة إنجاز مشروع الإدارة الذاتية"، مؤلفة من 60 عضواً والتي عقدت اجتماعها الأول بتاريخ 15-11-2013، وانتخبت لجنة مؤلفة من 19 شخصية تمثل الطيف السياسي والاجتماعي في المنطقة، وتمثلت مهمتها وبحسب البيان الذي صدر عن الهيئة في: صياغة مشروع الإدارة المرحلية المشتركة، إعداد وثيقة العقد الاجتماعي، وإعداد نظام انتخابي[6]. كما أكدت الهيئة في بيانها الختامي على أن هذا المشروع "لا يحمل أي أجندة تسعى إلى تقسيم سورية، بل على العكس، يعتبر هذا المشروع جزءا من الحل عبر نموذج ديمقراطي تعددي تشاركي"، بحسب نص البيان.

تم اعتماد تقسيم الإدارة الذاتية إلى ثلاثة مقاطعات، وهي: مقاطعة الجزيرة، مقاطعة عفرين، ومقاطعة عين عرب (كوباني). وفي الاجتماع الثاني "لهيئة متابعة إنجاز مشروع الإدارة الذاتية" الذي انعقد بتاريخ 2-12-2013، تقرر أن تقوم كل مقاطعة من المقاطعات الثلاث سابقة الذكر، بتشكيل إداراتها الذاتية بشكل مستقل دون تشكيل إدارة مشتركة للمقاطعات الثلاث. بينما اعتبرت مدينة القامشلي مركز الإدارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة، كما تم الاعتراف باللغات السريانية، الكردية والعربية كلغات رسمية في المقاطعة.

وبعد هذه الخطوات التمهيدية التي امتدت منذ نحو منتصف عام 2012 وحتى نهاية 2013، تم تتويج هذه الجهود في اجتماع للمجلس التشريعي[7] بالإعلان عن ولادة "الإدارة الذاتية الديموقراطية"، والتي قسمت هيكلياً إلى خمسة أقسام، وهي: المجلس التشريعي، المفوضية العليا للانتخابات، المحكمة الدستورية العليا، المجالس المحلية، والمجلس التنفيذي، والذي تألف من 22 هيئة ميدانية[8]. وفي التاسع عشر من شباط 2014، عقد المجلس التشريعي جلسته الأولى، بعد الإعلان عن الإدارة الذاتية، وتم فيها المصادقة على اختيار نواب رؤساء هيئات المجلس التنفيذي للإدارة، والبالغ عددهم 44 نائباً ونائبة (نائبين عن كل هيئة).

كما تم خلال جلسة المجلس التشريعي انتخاب ديوان دائم للمجلس، مؤلف من 5 أشخاص، وهم: أكرم محشوش، عبد الكريم سكو، بروين محمد، حكم خلو، ونظيرة كورية؛ كما وتم التوافق على تكليف "أكرم كمال حسو" لرئاسة المجلس التنفيذي وبتشكيل هيئات المجلس وذلك بالتشاور والتوافق مع الأطراف والقوى السياسية المشاركة في مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية[9].

وفي الجلسة الثانية "للمجلس التشريعي"، التي عقدت في الثاني من آذار 2014، صادق المجلس على أسماء أعضاء المفوضية العليا للانتخابات، وأعضاء المحكمة الدستورية، كما شكل المجلس خلال الاجتماع، اللجان العامة للمجلس التشريعي والبالغ عددها 13 لجنة، وذلك من أجل متابعة أعمال هيئات المجلس التنفيذي للإدارة. وفي أواخر شهر آذار من عام 2014، تم تشكيل "منسقية" مشتركة للمجالس التنفيذية للإدارة الذاتية في المقاطعات الثلاث (الجزيرة، عفرين، عين عرب "كوباني")، وذلك من خلال بيان أصدره المجلس التنفيذي في مقاطعة الجزيرة.

خاتمـــة

أفرزت أحداث الثورة السورية، عدداً كبيراً من التجارب في إدارة المدن التي سيطرت عليها المعارضة، وتنوعت أشكال هذه "الإدارات" بتنوع القوى الفاعلة وطبيعة توجهها السياسي والأيديولوجي، وفي أغلب الحالات، تعرضت هذه التجارب لصعوبات كبيرة، ليس أولها الحصار الذي ضرب على هذه المناطق والقصف الذي تتعرض له بشكل شبه يومي من قبل قوات الأسد، وليس آخرها نقص الدعم من قبل الأطراف التي ترى بأنها منحازة لقضية السوريين.

تندرج تجربة "الإدارة الذاتية" في القامشلي وباقي مناطق "روج آفا" بحسب اللغة القومية الكردية، في إطار هذه المحاولات التي راحت تبذلها قوى المجتمع السوري من أجل السيطرة على حياتها، وتخفف قدر الإمكان من حدّة الفوضى التي ولدت مع الحرب الدائرة، وهي تجربة لاقت الكثير من الاستحسان لدى قطاعات شعبية واسعة، إلا أنها أيضاً واجهت العديد من الانتقادات، والتي رأت في تسيد حزب الاتحاد الديموقراطي (PYD) لهذه التجربة تكراراً لتجربة حكم حزب البعث سيئة الصيت.

ورغم هذا، تخضع تجربة "الإدارة الذاتية"، لسيرورات معقدة وتخضع لامتحانات قاسية، تضع مفهوم الإدارة الديموقراطية على المحك، وتطرح العديد من التحديات على قوى الثورة حول قدرتهم على اجترار تجربة ديموقراطية تكون في نهاية المطاف نقيضاً لتجربة حزب البعث، التي أقل ما يمكن أن توصف به، بانها كانت تجربة ديكتاتورية قادت إلى الحرب في سوريا.

المراجع:

[1]- للاطلاع على محتوى هذا الميثاق، راجع نص «ميثاق العقد الاجتماعي في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية»، على موقع شبكة ولاتي الالكتروني، بتاريخ: 2014-01-10، على الرابط: http://cutt.us/oQdG

[2]- راجع حول ذلك، اللقاء الإذاعي مع السيد أكرم حسو، رئيس المجلس التنفيذي لمقاطعة الجزيرة في الإدارة الذاتية، الذي أجرته معه إذاعة صوت راية، بتاريخ: 7-5-2014.

[3]- حول مشروع الإدارة الذاتية الديموقراطية، راجع: "الإدارة الذاتية الديمقراطية النظام الأمثل للإدارة"، حسن رمو، بتاريخ: 21-1-2015، على موقع: وكالة أخبار هاوار، على الرابط الالكتروني: http://cutt.us/MVPs

[4]- حول مزيد من التفاصيل حول بنود الاتفاق، راجع "الإدارة الذاتية الديمقراطية النظام الأمثل للإدارة"، سبق ذكره.

[5]- حول أسماء الأحزاب والمنظمات التي حضرت إعلان الادارة المرحلية بالقامشلي، راجع موقع حزب الاتحاد الديموقراطي الالكتروني على الرابط: http://pydrojava.com/arsiv/index.php/tamazight/969-p-y-d، بتاريخ: 16-11-2013.

[6]- حول البيان الأول الصادر عن هيئة متابعة إنجاز مشروع الإدارة الذاتية، راجع: بيان الى الرأي العام من المجلس العام التأسيسي للإدارة المرحلية المشتركة، بتاريخ: 15-11-2013، على موقع: pydrojava الالكتروني.

[7]- حول النظام الداخلي والمراسيم التي أصدرها، راجع موقع المجلس على الويب، على الموقع التالي: http://cutt.us/dc8Dc

[8]- أسماء الهيئات التي تم تشكيلها: (هيئة العلاقات الخارجية، هيئة الدفاع والحماية الذاتية، هيئة الداخلية، هيئة الإدارة المحلية والبلديات، هيئة المالية، هيئة العمل والشؤون الاجتماعية، هيئة التعليم والتربية، هيئة الزراعة، هيئة الصحة، هيئة التجارة والاقتصاد، هيئة عوائل الشهداء، هيئة الثقافة، هيئة المواصلات والنقل، هيئة الشباب والرياضة، هيئة البيئة والسياحة والآثار، هيئة الشؤون الدينية، هيئة شؤون المرأة والأسرة، هيئة حقوق الإنسان، هيئة التموين، هيئة الاتصالات، هيئة العدل، هيئة الطاقة).

[9]- المعلومات في هذه الفقرة والفقرات التي تليها، مأخوذة من مقال بعنوان: "الإدارة الذاتية الديمقراطية النظام الأمثل للإدارة"، للكاتب حسن رمو، بتاريخ: 21-1-2015. نشر على موقع: وكالة أنباء هاوار.

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد