لا يخفى على مراقب أن النظام السوري خلال سنوات صراعه على البقاء منذ 2011 راح يضمحل بالتدريج، ليس فقط بالمعنى الجغرافي حيث راحت المساحة الواقعة تحت سيطرته البرية تنحسر باطراد، بل أيضاً بالمعنى السياسي، حين راح، تحت وطأة خسائره وانكماش الأرض من تحت قدميه، يسمي المنطقة التي يسيطر عليها "سوريا المفيدة"، ما يعني وجود سورية "غير مفيدة" يسوّغ النظام التخلي عنها للحفاظ على الذات (المفيد هو حيث يوجد النظام). وحين راح النظام يقول على لسان رئيسه، إن السوري ليس من يحمل هوية وجواز سفر سوريين "وأن سوريا لمن يدافع عنها أيا كانت جنسيته" في تخل متواصل عن فكرة الوطن لصالح فكرة السلطة بحدودها "سورية المفيدة" وقوة دفاعها "أي مقاتل من أي جنسية". بهذا يضطر إقطاعيو السلطة في سوريا أن يكشفوا تصورهم السياسي الذي لا يرى وطناً ولا وطنية بعيدة عن سيطرتهم واستمراريتهم. هذا ما قصدناه بالاضمحلال السياسي، إذ بماذا يختلف إقطاعيو السلطة هؤلاء عن الجهاديين الذين يستقبلون الجهاديين من كل أصقاع الأرض لممارسة "جهاد الدفع" عن "أرض الرباط" وتوسيعها؟
صحيح أن ثورة السوريين لم تبلور خطاً سياسياً موحداً على مدى عمرها الذي يوشك أن يكمل العام الخامس، وفشلت في أن توحد مجهودها العسكري من جهة ومجهودها السياسي من جهة أخرى، وفشلت أيضاً في توحيد المجهودين معاً وتنسيقهما. وصحيح أنه سيطر فيها الاتجاه السلفي الجهادي المعادي لكل تطلع تحرري للسوريين ولغير السوريين، ولهذا ربما فشلت في كسب متصاعد للشعب السوري، وهي لكل ما سبق أعطت النظام فرصة جيدة للدفاع عن نفسه وفشلت في أن تسقطه بضربة قاضية. كل هذا صحيح إلا أن حركة التغيير التي انطلقت في مطلع 2011 (سمّها اليوم ما شئت!) أنهكت النظام وساهمت في اضمحلاله حتى بات مجرد نظام حرب على شكل دولة، ومن المشكوك فيه أن يتمكن من الاستمرار خارج الحرب. أكثر من ذلك فإنه يشكل، وهو في الحرب، نظام خسائر وهزائم وتواطؤ حتى على جنوده (حين يحرمهم من الطعام اللائق ومن المعاملة المحترمة والمساواة، وحين لا يسمح بالقصاص ممن قتل عقيد في جيشه لأن القاتل ينتمي إلى عائلة الرئيس) وعلى جمهوره (حين يترك هذا الجمهور مادة للتشبيح الرسمي وغير الرسمي، فضلاً عن جعله ضحية مستمرة لفساد بلغ مستويات لم يبلغها من قبل).
النظام الذي لا يمتلك من تصور أو وعد سياسي سوى "العودة إلى ما كان"، كان كلما اجترح وسيلة للهرب من استحقاق السقوط، تسبب في ولادة وسيلة موازية تنهكه وتمضي به إلى المقبرة. الطائفية التي شد بها عصب الخشية من الإسلاميين لدى الأقليات المذهبية والطائفية، شدت بنفس القدر عصباً مضاداً مادته الغيرة على الإسلام السني لدى قطاعات غير قليلة من السنة، الأمر الذي جرى الاستثمار فيه من قبل دول مثل السعودية وتركيا وقطر. والدفع المتواصل باتجاه بروز تيار سلفي جهادي عبر ممارسة القمع التمييزي الذي يستهدف السلميين الديموقراطيين ويعفّ عن الإسلاميين ويفتح لهم أبواب السجون، ولّد تنظيمات عسكرية إسلامية شوهت الثورة صحيح، ولكنها أنهكت النظام عسكرياً أيضاً وحولته إلى دولة قاصرة تستجدي المقاتلين من كل مكان وتستجدي الحماية من الدول ذات المصلحة التي بدأت بإيران وانتهت بروسيا. ولكي يثبت النظام لدول الغرب وللرأي العام وحشية داعش والنصرة، قدّم جنوده وجمهوره في غير مكان ضحايا ومادة للذبح والإجرام الداعشي (مطار الطبقة والفرقة 17 واللواء 93 وفوج الميلبية في جنوب الحسكة ..الخ) والنصرة (مطار أبو الضهور ومعسكر وادي الضيف والحامدية وقرى ريف اللاذقية الشمالي وقرية اشتبرق..الخ) كي يمارس هؤلاء إجرامهم ووحشيتهم بما يعطي لعموم السوريين وللغرب وللعالم صورة منفّرة عن التنظيمات المرشحة للحلول محل النظام في حال سقوطه.
نجح النظام من هذه الزاوية ولعب دوره في تصدير صورة سيئة عن الثورة السورية ساهمت في تردد الغرب وتردد جمهور من السوريين أيضاً في دعم الثورة، غير أن النظام في فعله هذا زاد أيضاً من زعزعة صفوفه (الكثير من الموالين امتنع عن الالتحاق بالجيش بشتى أشكال التهرب بدءاً من الرشاوى وصولاً إلى الهرب خارج سوريا) وزعزعة ثقة جمهوره الذين بدأت تتعزز شكوكهم تجاه ما يجري في ميدان المعركة، وهذا ما دفع الموالين للتظاهر في اللاذقية وطرطوس والسؤال عن أبنائهم في الفرقة 17 ومطار الطبقة وفي غير مكان، ودفع أهالي الجنود المحاصرين في مطار كويريس في حلب للتظاهر مطالبين النظام بحماية المطار كي لا تتكرر قصة المطارات الأخرى التي نشرت حتى الصفحات الموالية ما جرى فيها من أسئلة مفتوحة على الخيانة.
وقف القتال في سورية سوف يعني بداية عملية التفكك في النظام. الآن يدرك النظام ذلك، ولذلك يصر على القول إن الهدف الأول هو "القضاء على الإرهاب"، ومعروف أن الإرهاب في لغة النظام كناية عن المعارضة الديموقراطية السلمية قبل أن تكون كناية عن داعش. وهذه مهمة تلامس المستحيل اليوم في سوريا، وليس إصرار النظام عليها سوى تعبير عن خشيته من وقف القتال وبدء آليات المحاسبة. حال النظام اليوم، كحال من وضع رجله على لغم، فلحظة انفجار اللغم (المحاسبة) قادمة رغم كل المماطلات ومحاولات قلب الطاولة. على هذا ينوس موقف النظام بين الاستمرار اللانهائي في حربه، وبين طلب الضمانات بعدم المحاسبة.
ويزداد اليوم قلق النظام مع بوادر فشل التدخل الروسي في استرجاع ما سبق أن خسره النظام. هذا يعني أن السقف الروسي سوف ينخفض إلى حدود جعل التدخل العسكري رافعة لحل سياسي يرضي الدول المعنية. ومن الواضح أن بشار الأسد بات خارج حسابات المستقبل السوري، وليس الكلام عن ترشحه في انتخابات رئاسية مبكرة وعن أن روسيا لا تضمن عدم ترشحه، سوى زعيق إعلامي للتغطية على خواء معنوي وسياسي يمكن أن يلخصه لسان حال الأسد بالقول: "شخصياً لا أريد سوى حسن الخاتمة".
يصر رأس النظام السوري أن لا يرحل قبل أن يكمل إنتاج محن شتى تبقى أمام السوريين لوقت طويل، محنة التباغض وانهدام الثقة بين أبناء البلد الواحد، ومحنة صعوبة تشكيل بديل وطني جراء تشتيت كل جهد وكل محاولة لذلك، ومحنة الانهيار الاقتصادي وتكاليف إعادة الإعمار. والمحصلة أن على السوريين البدء من نقطة قريبة من الصفر، ليس فقط بمعنى انهيار الاقتصاد وتكاليف إعادة الإعمار، بل أيضاً بمعنى الانهيار السياسي بفعل غياب بؤرة سياسية وطنية جامعة.