بين معتقلات النظام وأقفاص علوش


02 تشرين الثاني 2015

محمد ديبو

باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.

النظام يعتقل محمد الصالح من منزله في حمص، تنظيم داعش يغتال نشطاء الرقة في أورفا التركية، جيش الفتح المعارض في المعضمية يخرج جثة مدماة من معتقلاته، جيش الإسلام يعرض نساءا وأطفالا أسرى في أقفاص علهم يبعدون شبح الموت القادم من سماء لا ترحم على مدينة دوما..

تلك عينة سريعة، من أخبار تخص الحالة السورية. التدقيق بها والتأمل يدفعنا للقول أن على السوري اليوم أن يتحلى بطاقة تفوق صبر النبي أيوب ( وربما أيوبات) حتى يحتمل كل ما تراه عيناه ويعرفه عن حال بلده الممزق جغرافيات متعددة، والمتشظي بين سلطات قاتلة، والخاضع لاحتلالات عدة، والموزع على طاولات التفاوض العالمية التي يحضرها كل من شاء إلا السوري الذي بات صوته الأقل حضورا، لأن كثافة الألم أكبر من الكلام، وبلاغة الصمت الحزين أقوى من إيصال قضية ما لعالم أصم فقد السوريون ثقتهم بعدالته.

وإذا كان السوريون أغلقوا أبوابهم في وجه العالم وانحنوا على ذواتهم، هاربين من كاميرات لا ترى إلا ضعفهم وتشردهم، فإن الخارج لم يترك لهم مساحة داخل يلجأون إليها، إذ بات الحزن يقتحم البيوت، والصورة تصل إلى الروح مهما سوّرها صاحبها.

بين اعتقال النظام للناشط والمعارض محمد الصالح وخروج الجثث من المعتقلات النظامية، وأقفاص العار التي عرضها جنود زهران علوش في غوطة دمشق، يقف السوري حائرا بين مشهدين قاتلين، فالأول متوقع لأنه ثار أساسا ضد نظام القتل والاعتقال والتعسف، والثاني مذهل لأنه ير حال ثورته التي بات يخطفها التطرف والتوحش والأفعال المنافية لحقوق الإنسان التي ثار السوريون لأجل تحصيلها.

قد نفهم سر الألم الذي يعانيه أهالي دوما وكل من يقع فيه فعل القصف وإجرام النظام، وقد نفهم معنى مطالبة بعض الأهالي (إن صح ما قاله زهران وجيشه) بوضع الأسرى في أقفاص ليعانوا ما يعانون، بعد أن يقفدوا أحبتهم وأهلهم وبيوتهم، ففي لحظة الألم والفقد قد يفعل الإنسان أي شيء.. إلا أنه علينا أن ندرك أيضا أن رد الفعل يبقى رد فعل بلا نتيجة، لأن الثورة تصنعها الأفعال والمواقف لا ردود الأفعال، فما بالكم برد فعل لا نتيجة منه، فالنظام الذي ترك أسراه في يد المعارضة دون أن يفكر بمبادلتهم لن يقف عندهم اليوم، والنظام الذي يترك جنوده يقتلون كل يوم فداءا لعرشه لن يتوقف عند أمر كهذا، بل ربما قد يطربه الأمر، لأنه يبين أن البديل عنه أسوأ منه، وليس هناك أفضل من صورة أطفال ونساء معروضين في أقفاص للفرجة والموت!

يقول الفيلسوف "سبينوزا: "يجب أن لا نصبح وحوشا ونحن نقاتل الوحوش"، فهل هذا ما وصل إليه زهران علوش الذي لم يفرق بين أسرى لهم حقوق كاملة وبين حقده على نظام مجرم قاتل، فتماهى معه؟

التدقيق في الأمر يقودنا إلى محاولة معرفة التحولات التي جرت في بيئات الثورة أيضا، من بيئات تحتضن الحرية والورد والسوريين بأجمعهم، إلى بيئات ضيقة حتى بأبنائها الذين باتوا يقتلون في سجون الكتائب "المعارضة". هذا التحول بالضبط هو ما فشلت فيه الثورة السورية حتى اليوم، فلم تقدر على تقديم بديل قابل على إقناع السوريين قبل أن يقنعوا الأخر.

من جهة أخرى، يشير الأمر إلى العقل الذي يحكم بعض بنى الكتائب الإسلامية، والذي يعتبر "علوش" واحدا منه، فالرجل الذي تثار حوله شكوك كثيرة أساسا مذ خرج من سجن النظام، لم تكن تصرفاته يوما في صالح الثورة، منذ اعتقال رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي إلى هرب مراسلة الجزيرة في الغوطة واعتقال أمها بدلا منها، إلى قصف دمشق ردا على قصف النظام، إلى إعدامه بعض قادة الفصائل في الغوطة نفسها..

 تأمل هذا المسار غني بأحداث لا يمكن القول بأي شكل من الأشكال أنها تنتمي للثورة وخيار الحرية.. فالعقل الحاكم هنا هو عقل ضد الثورة التي طالما رفضها علوش مذ رفع علمه الإسلامي، علما بأنه ما كان ليخرج من معتقله دون هتافات السوريين، إذ كان يمكن لعلوش أن يستثمر أسراه بطريقة حضارية للضغط على النظام وحاضنته الاجتماعية عبر إظهار فيديو واحد لكل معتقل كل أسبوع مثلا وبطريقة حضارية، عبر ترك هذا الأسير يوجه رسالة لعائلته .. ولكن العقل المهيمن لعلوش وأمثاله أبعد من هكذا تصرف، وهو نفسه الفارق بين الثورة والميليشيا التي يتصرف علوش بوحيها، وهذا مايريده النظام بالضبط أن تصبح الحرب بينه كشرعية تمثل الدولة وبين ميليشيات لا تحمل أية قيم، وهذا ما يعمل النظام عليه بدأب لدفع كل الفصائل المعارضة لتسلك سلوك علوش لأنه يخدمها؟

أليس لهذا يعتقل النظام ناشطا سلميا مدنيا مثل "محمد الصالح" ويطلق سراح زهران وأشباهه؟

إن أردنا الفوز في معركة الموت هذه، علينا أن "لانصبح وحوشا ونحن نقاتل الوحوش" رغم أن ما يحصل حولنا لا يترك لنا خيارات كثيرة، ولكن علينا أن ندرك أننا ثرنا ضد نظام انتهك حرياتنا، وعلينا ألا نفعل مثله بانتهاك حرية "أسرى" لا يجب أن يكونوا أسرى لديه أساسا، خاصة المدنيين منهم.

سبق للسوريين أن أطلقوا حملة تحت عنوان "نحن بديل أخلاقي عن النظام"، فهذه الحملة تبين الفارق بين ثورتنا التي ضاعت وبين "ثورة" علوش، فهل يمكن لملمة الأشلاء أم أن الوقت فات بلاعودة؟

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد