ثمة سر في هذه القرية التي تقع على ضفة نهر العاصي، 7 كم شرق مدينة حمص، فعندما نقول "تير معلة"-والاسم يعني الهواء العليل باللغة الآرامية-، نعني عدداً من المبدعين الذين نشأوا فيها وتركوا علامة فارقة في الأدب السوري، الكتاب طالب هماش وفرج بيرقدار ومحمد هماش وأنور عمران وعصام كنج الحلبي، حسان العوض وفؤاد عمران والرسام رياض صطوف وعبد الرزاق شبلوط، هؤلاء وغيرهم العشرات مِن مَن أخذت إبداعاتهم طابع القرية، ووصلت أعمالهم إلى بلدان عربية وأوروبية، لكنهم لم يستطيعوا أن يعبِّروا عن أنفسهم إلا خارج قريتهم، فهي كسائر المناطق السورية، تخلق البذور دون أن تمنحها التربة المناسبة، بل تصدِّرها إلى الخارج، بسبب انغلاق أبنائها وعدم توفر مؤسسات في عهد ديكتاتورية الأسد.
قرب "تير معلة" من حمص منحها خصوصية ميزتها عن القرى المجاورة، كما يحدثنا الكاتب حسان العوض الذي نالت مجموعته "أشجار بحاجة إلى قطع" جائزة الشارقة للإبداع العربي 2013، فهذا القرب "سمح لأغنيائها أن يواصلوا الدراسة، كونها يمكن أن تغدو مصدراً للدخل إضافة للحضور الاجتماعي؛ فخرّجت "تيرمعلة" من دارسي العلوم الطبية والهندسية إضافة لبقية الفروع الجامعية ما لم تفعله قرية أخرى، إلا نادراَ، في سوريا، هذا جعل القرية تأخذ إيجابيات الريف والمدينة معاً"، لكن " قلة قليلة من أبنائها استطاعت أن ترى السلبيات، والأقل من حاول مواجهتها، ومنهم فرج بيرقدار الذي ترعرع في أسرة فقيرة لا تمتلك أرضاً زراعية، لكنه درس حتى تخرج من قسم اللغة العربية، ثم كتب الشعر الذي لا بد أن القرية كانت أحد منابعه، ووعى ما كان يفعله حافظ الأسد من تأسيس لسلطة استبدادية ستبتلع كل السلطات الأخرى؛ فاشتغل في السياسة ما كلفه أربعة عشر عاماً سجناً، ولكن كل الذين كتبوا بعده، اقتصر نشاطهم على الأدب، ولم يقتربوا من السياسة إلا بعد الثورة، علماً أن فرج نفسه انحاز أخيراً للشعر".
مع بدء الحراك الثوري، تظاهر أهالي القرية ضد نظام بشار الأسد، وتعرضوا لحملات مداهمة واعتقالات، ثم بدأ القصف على تيرمعلة مع دخول الجيش الحر إليها عام 2013، لكن لم يحتدم العنف فيها حتى عام 2014، بعد خروج المقاتلين من أحياء حمص القديمة ولجوء أعداد كبيرة منهم إليها، ومع بدء التدخل الروسي دُمرت معظم أحياء القرية كما نزح أكثر سكانها، " كنت ألعب مع أولاد الحارة في المساحة الفارغة من مقبرتها الجديدة التي امتلأت خلال سنوات الثورة، ثم تمت تسوية الجزء القديم منها لاستيعاب الشهداء الجدد، وأقضي يوم الجمعة في منزل عمي "عوض" الذي بناه بعد سنوات من عمله في السعودية نجاراً للباطون، شيّده في الحارة الشرقية حيث لم يكن يوجد وقتها إلا بعض البيوت"، كما يقول حسان الذي يقيم اليوم في السعودية للعمل طبيباً لـ(حكاية ما انحكت)، " كانت تصل صفحات الجرائد والمجلات المتطايرة من الفرقة 26 القريبة، وتعلق بالمزروعات المجاورة للمنزل، فأقرأها بنهم ومتعة، وبعد أسبوعين من محاولات عصابات الأسد اقتحام قريتي "تيرمعلة"، وبمساعدة من طيران المرتزقة الروس، استطاع جنود الأسد أن يحتلوا منزل عمي الذي نزح مع عائلته وبقراته إلى قرية أخرى، لقد احتلوا المكان ولكنهم لن يستطيعوا احتلال ذاكرته التي ستلفظهم عاجلاً أو آجلاً.
خلال هذه الحرب، قدمت القرية قصصاً غاية في الألم والحنين والإنسانية، فلم يعد الإبداع مقتصراً على القلم أو الريشة، بل أصبح سلوكاً ومواقف تُروى، منها ما كتبه ابن القرية عبد الرحمن هماش على صفحته، فقد حضر "أبو محمد" أحد الاجتماعات لمناقشة التطورات الأخيرة، وبعد قليل دخل أحد الأشخاص وطلب منه أن يرتاح، فقال له الحضور إنه وصل لتوه، عندها رد الرجل بأن "أبو محمد دفن ابنه منذ قليل"، ولم يكن قد أخبر أحداً بالأمر، بل ودعه وحده في المقبرة ثم ذهب إلى الاجتماع، كان هذا الشهيد هو "خالد اللوز" الذي قُتل في إحدى الغارات الروسية على القرية، وبعد ثلاثة أيام ودّع أبو محمد ابنه الآخر: "محمود اللوز"، أحد أبرز الإعلاميين في ريف حمص، إثر جروح أصيب بها جراء غارة أخرى في 26/10/2015.
لم يكن مثقفو القرية متفقين مع الأفكار الدينية لمعظم أبنائها، لذلك عاشوا حالة غربة وصلت أحياناً إلى حد القطيعة، يقول الرسام عبد الرزاق شبلوط لـ(حكاية ما انحكت): "بعد أن نلت شهادة البكالوريا، بدأت أسئلتي المصيرية تتشكل حول المجتمع والدين والسياسة وما إلى ذلك، لم أستطع أن أتأقلم مع وضعي في القرية، فقد بدأ الأقارب والجيران يحاولون تعديل أفكاري اليسارية حسب الطريق القويم الذي يرونه، بدأت المشاحنات تكبر بيني وبين أهلي وبدأت القطيعة بيني وبين أهل القرية.. وكان مشواري الوحيد في القرية هو من طريق السرفيس حتى بيتي ومن بيتي حتى طريق السرفيس، لكن لم أصطدم مع أي من أهل القرية لمعرفتي منبع الإختلاف بيننا ولمعرفتي بطيب نواياهم وبساطة قلوبهم"، لكن كيف أصبحت علاقة عبد الرزاق بأهل قريته مع بداية الثورة؟، " كنت مع أهل قريتي بنفس الجانب العادل والمحق، وكان إخوتي في مقدمة الشباب الذين خرجوا في المظاهرات، إلى أن فقدت أخي نديم ثم أخي سمير وزوج أختي، كما قُتِلَ والدي في سجون النظام وأصيب أخي حمزة، وعندما بدأ الطيران الروسي بقصف القرية استشهد ابن عمي في الضربة الأولى، لم أشعر أني قريب إلى أحد قربي من أهل تير معلة في الفترة الأخيرة".
في أيلول 2015، أقام عبد الرزاق شبلوط معرضاً للوحاته، وذلك في مدينة ديورن الألمانية، تضمن المعرض بورتريهات لإخوته الشهداء، إضافة إلى لوحات من وحي المأساة السورية، وما تبقى من عائلة شبلوط لجأ إلى القرى المجاورة، أما هو، وكما يقول لـ(حكاية ما انحكت)، يقضي معظم وقتي حيث أقيم في إحدى القرى بألمانيا متواصلاً مع أهله، ويضيف "لم أشعر بقربي من أحد قربي منهم منذ أن بدء الأحداث في سوريا".
تيرمعلة التي كانت مصدر إلهام للمبدعين بإطلالتها على العاصي، فقد حولتها الحرب إلى رمزٍ للفن الممزوج بلوعة مبدعيها وألمهم.