لم يكن جديداً أن تنتفض مدينة دير الزور في وقت مبكر على نظام الأسد في 15 أبريل 2011، فتاريخ المدينة معروف بالتمرد على الاحتلالات، من العثماني إلى البريطاني ثم الفرنسي، كما الحضارات التي تعاقبت على المدينة من البابلية إلى الأشورية فالكلدانية ثم الرومانية، جعلها تمتلك ذخيرة اجتماعية مدنية تجلَّت إثر تحريرها من نظام البعث في حزيران 2012، وذلك بتأسيس المجلس المحلي لمدينة لدير الزور، والذي تبلور بداية عام 2013.
يختلف هذا المجلس عن أمثاله في بقية المدن بأنه أولى اهتماماً لأدق تفاصيل حياة المواطن السوري في المدينة، فقد قام بإنشاء مكتب شامل للخدمات، اهتم بتوزيع مياه الشرب التي انقطعت بسبب القصف، إضافة إلى اهتمامه بإزالة الأنقاض وإطفاء الحرائق الناتجة عن القصف، كما أعاد فتح الطرق، إضافة إلى توزيع الخبز والوجبات والسلال الغذائية للعائلات التي خسرت معيلها.
من الناحية الديموغرافية، قام المجلس بإحصائيات دقيقة ودورية لمراقبة تغيرات أعداد السكان خلال الحرب الدائرة، كما قام بإعادة بناء المساكن المتضررة لتأمين عودة أكبر قدر ممكن من العائلات النازحة، إضافة إلى التواصل مع النازحين ودراسة أوضاعهم.
أما التعليم، فقد أولاه المجلس اهتماماً خاصاً، وذلك بافتتاح المكتب التربوي، الذي قام بإنشاء عشر مدارس ميدانية، ثمانية للمرحلة الابتدائية، واثنتان للإعدادية والثانوية، إضافة إلى إجراء الامتحانات لكافة المراحل، على الرغم من القصف المتواصل الذي تعرضت له عدة مدارس في المدينة، هكذا أصبح المجلس المحلي الجهة المدنية الوحيدة المسؤولة عن جميع الخدمات المقدمة للمدنيين من تعليم وإغاثة ونظافة، كما جاء في تعريف المجلس على الصفحة الخاصة.
عصامية دير الزور التي ظهرت بدفاعها عن بقية المدن السورية من خلال التظاهر اليومي تضامناً معها، ظهرت أيضاً في قيامها بإدارة أبنائها لأمورهم بأنفسهم، فهذه المدينة التي أهملها نظام البعث، وحول ثرواتها إلى مصدر دخل للعائلة الحاكمة، لاقت ذات الإهمال خلال الثورة من قبل قوى المعارضة، غير أن نظام البعث الذي سيطر على كافة مؤسسات الدولة، لم يترك خروجه من المدينة فراغاً عسكرياً فقط، بل فراغاً في كافة القطاعات والمرافق الحكومية، هذا الفراغ سرعان ما سُدَّ بجهود أبناء المدينة وبسرعة قياسية، مع أن الاضطراب العسكري في المدينة لم يهدأ منذ اشتعال الثورة السورية، فعلى الرغم من طرد جيش النظام، إلا أن القصف استمر مستهدفاً التجمعات السكنية والمدارس والمرافق الحيوية، لاسيما قصف النظام للجسر المعلق الذي كان يربط بين طرفي المدينة، إضافة إلى المعارك المحتدمة بين جبهة النصرة وداعش، إلى أن سيطر عليها الأخير منتصف عام 2014، مطلقاً عليها اسم "ولاية الخير" بدلاً من "دير الزور"، والذي يعني دير الرهبان، و"الزور" الأرض المنخفضة الخصبة في اللهجة المحلية.
لقد اختفى المجلس المحلي، وتحولت دير الزور إلى ساحة انتقام داعشي مِن كل مَن يقوم بعمل مدني، بالإضافة إلى تطبيق الشرعية الإسلامية الذي أدى إلى نزوح مئة وخمسين ألفاً من السكان حتى عام 2015، في حين بلغت نسبة الدمار ستة وخمسين بالمئة من مجمل المناطق السكنية، بالإضافة إلى التغير الديموغرافي الذي خلقه توطين أجانب داعش "المهاجرين" مع عائلاتهم.
احتمال عودة المجلس المحلي مرتبط بمصير دير الزور، ففي حال تحررت من "داعش"، ستكون عودته حتمية، إذ إن معظم كوادر المجلس هاجرت، ومن خلال أنشطتهم الأخرى التي تتركز اليوم على فضح جرائم التنظيم، نستشف أنهم لا زالوا قادرين على الحِراك لو زال الاحتلال الداعشي، فهم قدروا عليه بعد خمسين سنة من الاحتلال الأسدي.