عندما يستحيل السجين سجاناً يسارع إلى تمثّل أخلاق وممارسات لطالما اشتكى منها وعانى. وما إن تسوق الأقدار بتقلباتها إلى يديه أحداً من جلاديه القدامى، أو من يمثلهم، حتى تشتعل في صدره جذوة نار الانتقام. فيرد الصاع بمثله، أو صاعين أحياناً. وليطال في تماديه المدنيين الذين ادعى يوماً حمايتهم. وإذ بالمظلوم ظالماً، وبالمقهور المكلوم، قاهراً متمرساً في نكئ الجراح.
ما أن بدأ العمل المسلح يتسلل إلى ميادين الحراك السلمي في سوريا؛ حتى بسطت التشكيلات العسكرية المعارضة سيطرتها على بعض المناطق بداية، وجلها في آخر المطاف.
وكان من طبيعة الأشياء أن يقع في أيدي "الثوار" المسلحين عناصر تابعة للجيش النظامي والميليشيات الملحقة به، أو الملحق بها. وأصبحت هذه الفصائل المسلحة مسؤولة عن الأمن الداخلي في مناطق نفوذها، وخاصة منها الواقعة تحت حصار قوات النظام.
وشكلت كل مجموعة مسلحة ما أسمتها بـ"محكمتها الشرعية"، وألحق بكل محكمة من تلك سجن لتنفيذ الأحكام الصادرة عنها بحق "المحكومين".
وفي بداية عام 2012؛ جرى في الغوطة الشرقية تشكيل شرطة مدنية تحت اسم "مديرية منطقة دوما"، أشرف عليها أحد ضباط الشرطة المنشقين عن داخلية النظام السوري، حيث بادر الضابط المنشق إلى تدريب أفراد مدنيين ليكونوا نواة "الشرطة" المسؤولة عن الأمن في المنطقة، نواة قوامها خمسون عنصراً أكثرهم أميون لا يعرفون القراءة أو الكتابة، وسرعان ما وصل عددهم إلى المائة.
وتم الحفاظ في الهيئة المستجدة، "المديرية"، على التشكيل المعتمد السابق لمنطقة دوما، حيث تكونت من مدير منطقة، يتبع له مدراء نواح في الغوطة، مع مخافر للشرطة في ثلاثة قطاعات.
وجرت الأمور على توقيف من تقع بحقهم شكاوى المشاجرات والسرقات والضرب والقتل، لدى تلك المخافر بموجب مذكرات قضائية صادرة عن الهيئات القضائية لمدة 48 ساعة قابلة للتمديد. وبعد انتهاء التحقيق يتم إحالة الموقوفين إلى القضاء الذي يصدر أحكامه بحقهم، وبعد صدور تلك الأحكام عن مجلس الشورى التابع لجيش الإسلام (القوة الأكثر سيطرة في تلك المنطقة) يحال المحكومون إلى سجن النساء القديم في قلب مدينة دوما، والذي جُعل مقراً يُجمع فيه السجناء الجنائيون. أما بالنسبة للأحداث الذكور (تحت سن 18 عاماً)؛ فكان يتم احتجازهم في مركز خاص بهم يشرف عليه طبيب عام في مقتبل العمر مع مساعدين مدنيين لا خبرة لديهم ولا دراية في إدارة هكذا مراكز، شأنهم في هذا شأن مديرهم الطبيب الشاب إياه.
أما السجينات النساء، فقد كانت جميع الفصائل تودعهن مكاناً واحداً، كانت المسؤولة عنه امرأة تكنى بأم سليمان، عرفت بقسوتها وتعذيبها للسجينات، وقد تم توقيفها بعد عدة شكاوى، وأطلق سراحها لاحقاً، إنما لا تزال خاضعة لإجراءات محاكمتها.
وتم قبل عدة شهور إحداث سجن للنساء تشرف عليه نسوة بإشراف "مديرية منطقة دوما". كما جرى تسليم مركز إيواء الأحداث لطاقم من السيدات للإشراف عليه.
أمّا السجناء الذين توجه إليهم تهمة التعامل مع النظام، أو أولئك الذين يتم أسرهم أثناء المعارك والاشتباكات مع قوات النظام والميليشيات التابعة له؛ فقد كانوا يؤخذون إلى سجون تابعة لفصائل المعارضة المسلحة. وهي سجون سرية متكتم على تفاصيل أماكنها وطرق الوصول إليها. غير أن ما يتسرب منها من معلومات يؤكد حصول عمليات تعذيب فيها، وحوادث وفاة ناتجة عن هذا التعذيب. ووجود سجناء لم يخضعوا لأي نوع من المحاكمات الدارجة، ولا حتى من قبل ما يسمى بالهيئات الشرعية. وهي كذلك، أي السجون، غير خاضعة لنظام إدارة محدد، وإنما تتبع مزاجية الأفراد القائمين عليها وجماعاتهم التي يقاتلون تحت لوائها.
ويمكن تقييم تجربة "مؤسسة السجون والمشرفين عليهم في منطقة الغوطة الشرقية"، إن جاز لنا تسميتها بذلك، من خلال التمييز بين "السجن"، و"مركز الإيواء" الذي تشرف عليهما "مديرية منطقة دوما"؛ وبين "السجون السرية" التابعة للفصائل المسلحة المعارضة في الغوطة الشرقية. كما يجب أن نلحظ في هذا السياق نوعاً من التقبل بين المدنيين السوريين في تلك المناطق للصنف الأول، ونفور وخوف من الثاني.
فقد لجأت قوى الأمر الواقع الميداني إلى تطبيق الأنظمة المعمول بها أصلاً في نظام سجون الدولة السورية فيما يتعلق بالسجن الخاص بالمحكومين بجرائم جنائية. حيث يتم اعتبار المحكومين نزلاء لا يجوز معاقبتهم، ولا تعذيبهم، بعد إصدار الأحكام بحقهم من قبل "الهيئات الشرعية" كسلطة قضائية تخول نفسها، حصراً، حق إصدار أحكام السجن. وتعاقب من يأتي بأي مخالفة أثناء تواجده في هذا السجن من خلال توجيه "تنبيه" إليه، وفي حال تكررت المخالفة تضع المخالف في زنزانة منفردة لمدة يومين أو ثلاثة أيام.
وكان نزلاء السجن يحصلون عادة على ثلاث وجبات يومية (يتم إعدادها داخل السجن)، انخفضت إلى وجبتين اثنتين بعد تشديد القوات النظامية حصارها الشرس على الغوطة. ويحق لكل نزيل فراش اسفنجي مع عدة أغطية، ويمكن للنزيل الاستحمام مرتين في الأسبوع بمياه ساخنة. كما يتواجد في السجن ثلاثة ممرضين مناوبين على مدار اليوم، إضافة إلى زيارة يومية لطبيب غير مقيم، مهمته تفقد المرضى من النزلاء. أما الحالات الطبية الطارئة؛ فتنقل خارج السجن إلى إحدى النقاط الطبية المتواجدة في مدينة دوما للعلاج وفق الإمكانات الطبية المتاحة.
أمّا فيما يتعلق بسجن النساء، فقد تم مؤخراً تشكيل إدارة جديدة له ترؤسها سيدة وتعاونها سيدات أيضاً. وعلاوة على ما تم ذكره آنفاً في سجون الرجال، يتم في سجن النساء توفير ما يلزم للنزيلات الأمهات وأطفالهن وفق الإمكانات المتاحة (غالباً عن طريق التبرعات التي يقدمها الأهالي)، من حيث الطعام واللباس وأدوات النظافة الشخصية. وتراعي إدارة هذا السجن الاحتياجات النسائية الخاصة، واحتياجات الأطفال الرضع على وجه الخصوص، من حيث تأمين الفوط الصحية وحليب الأطفال. ومن كان من هؤلاء الأطفال في سن معينة، فيرسل إلى أماكن تعليم خاصة بحسب المناهج الموجودة والمتعددة في الغوطة الشرقية.
أمّا فيما يتعلق بالمخالفات التي تقع من طرف "العناصر الشرطية" بحق نزلاء ونزيلات السجون؛ فتحيل الإدارة المخالفين والمخالفات إلى القضاء (الهيئات الشرعية) للنظر في المخالفة، وتتراوح العقوبات بين السجن، أو النقل. (وهو ما حدث لمدير سابق للسجن بسبب إساءته معاملة أهالي النزلاء).
ويحق لأهالي النزلاء من المدنيين زيارة أبناءهم في هذين السجنين، وتزويدهم بما يحتاجون إليه. ما يجعل هذا النوع من السجون أخف وطأة من السجون السرية التابعة للفصائل المسلحة، كسجن يسمى "التوبة" (يتبع لجيش الإسلام)، وآخر "أبي النصر" (يتبع لفيلق الرحمن).
ويخضع هذا النوع من السجون للسيطرة والإدارة المباشرة لمقاتلين تابعين لتلك الفصائل، وما يسمى بهيئاتها الشرعية. ويحيط بها في الغالب الأعم غطاء من السرية والتكتم الشديدين. وقد تكون مجرد مزرعة ما في الغوطة، أو بيتاً سكنياً في ناحية من أنحاء المدينة.
كحال مزرعة ينبئ الظاهر من اسمها عن الباطن مما يفعل فيها، وهي "المسلخ". و"المسلخ" سجن يخضع لسيطرة من يسمون أنفسهم بـ"الشرطة العسكرية" (وهي غير تلك التابعة لجيش النظام وإن تشابهت الأسماء والأفعال) ويتزعم تلك المجموعة المدعو "أبو أ،ص"، وآخر معه يدعى "خ". ومهمة هذين الإثنين تتلخص بتفيذ عمليات خطف وطلب فديات وخوات للإفراج عن المخطوفين الذين قد يكونون ضباطاً تحت إمرة النظام، أو تجاراً ميسورين. من دون استبعاد أن تنتهي إحدى عمليات الخطف تلك بإعدام المخطوف، ودفن جثته داخل تلك المرزعة. وهو ما يمارسه أيضاً من يسمون أنفسهم بـ"لواء شهداء دوما" الذي كان يتزعمه المدعو "أبو علي خ". وجميع هؤلاء متعاملون مع شخص يدعى "أبو عبد الله ش"، الشهير بكونه "ضابط أمن الغوطة". وما يزيد من صدمة المعلومة ارتباط هذين الفصيلين، "الشرطة العسكرية" و"لواء شهداء دوما"، بمجموعة تقول إنها تعمل في مجال حقوق الإنسان داخل الغوطة الشرقية.
ولا يرعوي "الجلادون" القائمون على هذه السجون السرية عن خطف الأطفال، وحبسهم فيها، تحت ذرائع مختلفة، كالتعامل مع النظام، أو الانتماء لتنظيم الدولة الإسلامية الشهير بـ"داعش".
وبالعودة إلى التقييم العام لكل هذه السجون، فإنّ العلني منها لازال قابلاً للتقويم والتصحيح بمجرد ذيوع أنباء عن وجود انتهاكات أو تقصير في إدارتها. كحال السجن، والمخفر، التابع لـ"مديرية منطقة دوما". حيث لا يمكن إغفال جهد محاولات "مأسسته"، وإيجاد حلول للأوضاع المستجدة فيه. كالعمل على تأهيل كوادره، وتأمين احتياجات نزلاءه (خاصة النزيلات الأمهات وأطفالهن)، في ظل ضعف الإمكانات المادية، ونقص الخبرة الإدارية، ومحاربة ما يسمى بـ"الهيئة الشرعية" (جنباً إلى جنب مع فاسدي من يسمون أنفسهم بمسؤولي المعارضة المسلحة).
أما السجون السرية، فلا يمكن الحديث عن أي إيجابيات لها على الإطلاق، لما يكتنف طرق إدراتها من غموض، ولفقدانها أي شرعية سوى شرعية الأمزجة المريضة، والجهل المطبق للقائمين عليها بما يتعلق بالقوانين والأنظمة الناظمة لإدارة السجون. علاوة على الرغبة المنفلتة من أي عقال طلباً للانتقام والثأر من جلادي النظام القائم، بحسب ما يقولونه عن أنفسهم.
أما الطامة الكبرى، والمفسدة الأعظم، فتكمن باستمراء السلطة والقوة الغاشمة البعيدة عن أي مراقبة أو محاسبة، تحت ظلال رايات (إسلامية وعلمانية وقومية) تتقاذفها الأهواء السياسية المتقلبة. لتمسي "العدالة" التي قامت الثورة في الأساس لإرسائها الضحية الأولى والأخيرة.