فقدت هدى ذات الثلاثين عاماً قدمها الصغيرة لورم أصابها. ولطالما رفضت فكرة الزواج خوفاً من أن يعيرها رجل (كامل) بكونها (عاجزة). هي اليوم متزوجة من حاتم، الذي فقد قدمه منذ عامين في قصف على الغوطة الشرقية، تقول لحكاية ما انحكت: "بعد الثورة، والحرب، أستطيع أن أجد من هو مثلي".
في تقريرها عن الجرحى في سوريا، تذكر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن ما لا يقلّ عن ١٫١ مليون شخص أصيبوا في سورية منذ آذار ٢٠١١، ما لا يقلّ عن ٤٥ ٪ منهم نساء وأطفال، ومابين ١٠ ٪ إلى ١٥ ٪ تتحول إلى حالات إعاقة أو بتر للأعضاء.
يستطيع العابر لشوارع مناطق المعارضة كما في الغوطة الشرقية على سبيل المثال إدراك حجم المصيبة وهولها، إذ قلما يمر المرء في طريق لا يرى فيه مصاباً أو أكثر. تأتي الأنباء في النشرات الإخبارية عن وقوع عدد من القتلى، ويكبر الرقم لعد الجرحى وينتهي الخبر. ولا وقت أو إمكانية لذكر كم واحداً منهم نال الإصابة التي ستغير حياته جذرياً، فلا تعود كما ظنها ستمضي.
"معظم الإصابات ناتجة عن القصف العشواﺋﻲ بالصواريخ ﺑﻤختلف أنواعها وبالقنابل البرميلية بالدرجة الأولى، وثانيا برصاص القناصين، وأغلب المصابين هم من المدنيين، هذه الإصابات أكثر بأضعاف مضاعفة من الإصابات الناتجة عن الاشتباكات، وكما أن أغلب القتلى هم من المدنيين فإن أغلب الجرحى هم من المدنيين أيضا"، حسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
كثيرة هي الإصابات التي تؤدي إلى إعاقات دائمة، قلة الكادر النوعي كأخصائيي الجراحة العصبية وجراحة الأوعية، كما أن قلة مواد التطهير والتعقيم وأدوية الالتهاب، لا تؤدي إلا إلى الإنتان، مما يضطر الطبيب إلى بتر الطرف المصاب، وهناك نوعية السلاح المستخدم، والذي غالباً ما يسبب إصابات مفتتة، ستؤدي إلى نوع من الإعاقة مهما قدم لهم من رعاية صحية.
الموت أهون!
فقدان طرف أو حاسة أمر قد ينافس لدى صاحبه الموت ألماً، كثيرون يعتقدون أن من مات قد ارتاح، أما هم وفي ظرف كالذي تمر به البلاد، يتجرعون الموت كل لحظة في معاناة البقاء. يعقد حاتم يديه أمام صدره متسائلاً: " الذي مات يعتبر شهيداً، أما أنا فما الذي أستفيده من بقائي حياً"، غابطاً الشهداء على راحة الموت وفخر الشهادة، فيم لم يبق له إلا ذل السؤال لتأمين معيشته وزوجته التي يشاركها عكازين يحرمانهما أن يتأبطا ذراعي بعضهما إذا ما خرجا إلى الطريق، متحسرين على ما سلبتهما الحياة دون رجعة.
نور، أحد العاملين في مركز تركيب الأطراف الاصطناعية يبوح بمعاناة أخرى، فبتر الطرف لا يؤثر فقط على الشخص المصاب، لكنه يطال عائلته بشكل كبير، فقد يفقدونه كمعيل أو راعي، وقد يتحول هذا إلى دورهم وبشكل مفاجئ يترافق وصدمة مصابهم، هذا كفيل بتحويل حياة عوائل بأكملها إلى بؤس يومي يؤكد نظرية حاتم، ويصبح الموت أمنية كانت لتتحقق لولا سوء حظ في البقاء على قيد حياة! "نعم الأمور بهذا السوء"، يؤكد نور لحكاية ما انحكت.
الأمثلة كثيرة حتى لتضيق ببؤس الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم، خاصة في منطقة تحت الحصار. هناك حيث يعيش سعيد من بلدة عين ترما، أب لسبعة وزوج لاثنتين. عائلة لم تكن سهلة الإعالة قبل إصابته، لكنها اليوم أبعد ما تكون عن الحياة الكريمة. في يوميات تحضر فيها الحرب قصفاً، ويزيدها الحصار فقراً وجوعاً وانعداماً لأي موارد أو إنتاج، وبإصابة خطيرة خلفت بتراً أنهى أي وجود لساقه اليسرى، تحول من كان يمتلك بيتين إلى بائع خبز عند الباب، وتحولت النسوة اللائي لم يكن يسمح لهن بالاختلاط سابقا إلى تجارة ما تيسر من سكر، أرز أو غاز. هذا طبعاً بعد انتقال العائلة إلى منطقة القابون الأقل حصاراً، والنافذة على دمشق.
سعيد مصاب باكتئاب حاد ومعظم أفراد عائلته، يحاربون الوقت بالنوم ليقتلوه، فلا يشعروا بمرور الحياة الثقيل والمتطلب، ذلك الذي بات يفوق طاقاتهم.
من يفكر بالانتحار.. من يتحدى
أقدم علاء، عازف درامز من دمشق، فقد يده اليمنى، على الانتحار أكثر من مرة، فحياته كانت مكرسة لما يستطيع فعله به، أما ولم تعد موجودة: "لا أطيق التعامل مع الآخرين، ولا أريد أن أستمر في الوجود هكذا" كما يقول لحكاية ما انحكت.
سخرية الأمر أن علاء سجن لاشتراكه في مظاهرات ضد النظام، وأصيب بقذيفة يقتنع أهله المؤيدون أنها من قوات الثوار المعارضين في الغوطة. لم يسلم لهذا من تعليقات أقرباء موالين شامتة.
لكن وسيم، ذي الاثني عشر عاماً لازال يمارس كرة القدم حتى بعد فقده ساقه في قصف على حي بابا عمرو الحمصي، لاجئاً في طرابلس اللبنانية وحارساً لمرمى فريق مدرسته. ينتظر أن يعوّض طرفه الذي دفنه في مدينته بآخر صناعي. لكن ذلك لن يحدث حتى يكتمل نموه، كي لا تصنع القدم البديلة المكلفة، ثم تستخدم أشهر وترمى لثبات طولها ونمو جسد وسيم، الذي يقول "لا زلت واحداً من أفضل المدافعين" ويضحك، كما هي عادته دوماً، حسب أبيه.
اختلاف ردود فعل المصاب بصدمة بتر الحرب يتراوح حسب عدة عوامل اجتماعية واقتصادية، بين التقبل السريع والإصرار على أهداف الحياة السابقة، وبين فقدان الأمل والثقة بالنفس، وأحياناً يحوّل الشخص إلى اتكالي، يطلب من الآخرين رعايته، مرتاحاً لدور العاجز الذي يعفيه من عناء حياة بقدرات أقل مما اعتاد.
في وضع كما في سورية، وفي بعض المناطق التي يوصف عيشها بالضنك لانتفاء أسباب الطاقة والتواصل والمواصلات، يغدو الميل لطلب المساعدة ممن لم يصابوا شائعاً، فكيف لمن وصلت الحرب بآثارها إلى أجسادهم؟ إنهم كثيراً ما يتحولون إلى مستجدين.
وتتطلب إعادة تأهيل المبتورين مبالغ كبيرة، لتصنيع الأطراف الاصطناعية المكلفة، وكثير منهم لا ينالون الفرصة لكون إصاباتهم قد اقتطعت أجزاء من أجسادهم أكثر مما يمكن للإمكانات البسيطة داخل سورية الخارجة عن سلطة النظام، ويضطر بعضهم للهجرة بحثاً عن بلاد أخرى بإمكانات طبية ومعونات لمن مثلهم.
بعضهم يكتفي بوسائل بدائية، كما يفعل بائع الشاي على الطريق في منطقة برزة في دمشق، "قمت بتذويب أنبوب بلاستيكي ثخين وجعلته منحنياً، وهاهو يحملني ويرتدي حذائي" قائلا لحكاية ما انحكت.
بينما لم يحظ حاتم وهدى بتركيب أطراف رغم توفر متبرع بثمنها، لكسلهم عن ممارسة الرياضة التي تقوي الطرف وبقية العضلات لتستطيع الاعتماد على القدم الغريبة أول الأمر. يتذمر نور، أخصائي العلاج الفيزيائي في أحد مراكز تركيب الأطراف من رفضهم مساعدة أنفسهم، ويعتقد أنه يفوتون فرصة يحرّم منها كثيرون، ويشك بكونهم يتصرفون كذلك ليستمروا في سؤال الناس.
ما يجعل البتر في سورية مختلفاً اليوم عما كان سابقاً، أنه قد يحدث لأسباب غير الإصابة الخطيرة، كأن تكون مطلوباً من قبل النظام، محتجزاً في منطقة للمعارضة، عمليات كثيرة لا يمكن القيام بها، ويغدو البتر حلاً لمشكلات مختلفة، بينما يترك لدى مصابيه حسرة وألماً من جيرانهم في مناطق النظام، تلك التي لا تزال فيها المشافي والكوادر الطبية غير مستهدفة.
ومما لا يزال يتشابه في كل المناطق، هو ذلك الألم الجسدي النفسي (الطرف الشبح) وإحساس فاقد الطرف بعضوه غير الموجود، وكأنه حقيقي. يحس بالوخز وبالحكة وبما يسميه المصابون (الكهرباء) أو ألم الأعصاب، ويعاني منه معظمهم بعد الفقد. يضع المعالجون أحياناً مرآة تعكس الطرف الباقي إن وجد ليريحوا مرضاهم لفترة، وكأن مشاهدة ما تبقى، قد تنسي ما راح، والإكمال بالبقية هو ما يمكن، فقط.