خمس سنوات والصراع متواصل في سوريا، لم يعد للسوري خلالها عدو واحد فقط، وإنما أعداء كُثر، أشرسها الموت والجوع, ولم يبقى عائلة سوريّة لم تفقد أحد أبنائها، والكل يبحث عن ملاذ آمن يخفف عنه وطأة الكارثة.
"الوطنية البدائية" التي قال فيها جورج أورويل أنها أفضل ما قد تحصل عليه السلطة من الشعب تُستغَل حرفياً ومنهجياً في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام،لاسيما في الساحل السوري، العائم على بحر من دم أبنائه، الذين يتمسك ذووهم بقشة النظام رغم لعنهم له ليل نهار!
موالون.. ولكن
الحديث عن "الموت المجاني"، "الفساد"، "المفسدين"، "تجار الحرب"، "الغلاء" لم يعد حبيس الغرف المغلقة فقط، بل بتّ تسمعه عند البقال وفي وسائل النقل العامة، ويتناهى إلى مسامعك من عابري الطريق. جولة سريعة في "الأحياء الموالية" توضح كيف أنه ليس كل موالٍ للنظام هو كغيره من الموالين، فقد نشأ صراع غير معلن تحدده المصالح التي تقسم الموالين أنفسهم إلى فئات متنافرة، تعكس الأسباب المختلفة التي دفعتهم إلى مساندة النظام، أو رفضهم لمعارضيه على أقل تقدير.
انقسم "المجتمع الموالي" ما بين مستفيد من الحالة الراهنة، يستغل كافة الظروف غير آبه بما يحدث، مدعوماً من قبل جهة ما لها حظوتها ويقوم بأعمال (تشبيحية) ضد فئات أخرى من الموالين البسطاء الذين لا يتجرؤون على ممارسة أبسط حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم أمام بطش "الشبّيحة".
"خبر صدور نوع موبايل جديد يحركني من أعماقي ويشغلني أكثر من خبر استشهاد شخص أعرفه" هكذا يصف نادر الطالب الجامعي المغرم بالتكنولوجيا، علاقته بحالات الموت الكثيرة التي تحدث في محيطه بشكل يومي. يكمل نادر قائلاً: "أنا لا أفكر بالغد، أعيش يومي بأقل خسائر ممكنة أنتظر بداية كل شهر لأستلم راتب أمي المتوفاة حديثاً، مع أنه لا يغطي ربع متطلباتي، وهكذا الأيام تمحو الأيام".
على ضفة أخرى موالية، يقف وسيم الشاب الثلاثيني الذي كان يعمل سابقا في مجال الاتصالات وهو اليوم عضو في ميليشيا "الدفاع الوطني". يقول متباهياً : "أتمنى أن تستمر الأزمة لأعوام. أنا مدعوم (أي هناك أشخاص متنفّذون يحمونه) ولا يستطيع أحد العبث معي. أذهب في جولة على طريق اللاذقية - حلب ومعي جماعتي على الطريق يأخذون ما يريدون دون أن يجرؤ أحد على الكلام أو الاعتراض، وأصبح لدي العديد من السيارات والمنازل". يصمت برهةً ثم يتابع، وكأنه يبرّر لنفسه بصوت عال: "في هذه الحرب فقدت أخي وابن أخي ومن حقي أن أعوض".
الموت و تفسيراته المتعدده:
"أهل الساحل هم خزان للنظام والداعم البشري له في هذه الحرب، هم كالجمر الذي يذوب سراً تحت رماد هذه الحرب الطاحنة" هكذا يصف محمود الوضع. يعمل محمود مدرساً خصوصياً رغم أنه لم ينه دراسته الجامعية متعمداً ليستطيع الاستمرار بتأجيل خدمته العسكرية التي يسعى للتملص منها، ويضيف: "ليس سراً أن هنالك من يعتبرون الموت فخراً وشرفاً ويبحثون عن ملاقاته في ساحات القتال على امتداد رقعة الخارطة السورية كلها، وفي المقابل ثمة من يعتبر أنه مُجبر على المشاركة في هذه الحرب القذرة التي لا ينتمي لأي من أطرفها المتصارعة".
تسيطر أيديولوجيا "الوطنية" على عقول ومشاعر الكثير ممن يؤمنون بأن الموت واجب في سبيل الدفاع عن الأرض والوطن، ويتخذون من تطرف المعارضة والانتهاكات التي تقوم بها بعض جماعاتهالا سيما الممارسات الوحشية بحق من هم تحت سيطرتهم، حجة قوية يقنعون أنفسهم من خلالها بفكرة أن الدفاع عن بقاء النظام رغم كل مثالبه هو الضمان لأمن أبنائهم واستمرار حياتهم.
أم أحمد امرأة مسنّة تجاوزت السبعين من عمرها، لها سبعة أبناء فقدت أربعةً منهم خلال السنوات الخمس الماضية، تقول العجوز باكية: "يجب أن نقدم أغلى ما نملك دفاعا عن أنفسنا لكي نستمر وبالطبع سيكون الثمن الغالي ولا مانع لدي من فقدان الثلاثة الآخرين"، وهو ما أكده زوجها أبو أحمد على الرغم من أنه عبّر بوضوح عن رفضه لسلوك النظام في التعاطي مع الأزمة قائلاً: "كان يجب محاسبة الخونة والفاسدين, هناك من يسلمون المناطق للمسلحين مقابل المال ولم تتم محاكمتهم، فقدت أحد أبنائي في مطار الطبقة ولم نعلم ما جرى حتى هذا اليوم، ولا يوجد رواية رسمية للنظام تخبرنا بما حدث لأبنائنا".
في المقابل تتخذ أم علي المرأة الستينية موقفاً مغايراً تماماً، فهي بعد أن فقدت ابنها الأوسط في الحرب، تقول: "أنا غير مستعدة لإرسال ابني الصغير للجيش، لا يمكنني أن أتخيل فقدان ابنٍ آخر ولو طبقت السماء على الأرض..ابني لا يغادر القرية خوفاً من أن يكون اسمه مطلوباً للاحتياط، لذا يكفي أن يخرج للعمل في بستان البرتقال ضمن القرية ليساعد أباه".
ملوك "التعفيش"
خلال الحديث مع محمد، وهو مقاتل في إحدى مجموعات الدفاع الوطني، قال: "أنهيت تعليمي في المعهد الصناعي، وأنا في سن الخدمة الإلزامية، ولم يعد أمامي إلا خيار الانضمام للدفاع الوطني لأن الراتب فيه أكبر من راتب المجند في الجيش، وأنا أخدم في ريف اللاذقية حيث تتسنى لي فرصه رؤية خطيبتي وأهلي مرة في كل أسبوع، وهذه الفرصة غير متاحة في حال التحقت بالجيش النظامي.مع ذلك لا أضمن بقائي حياً ليوم غد".
ينفث محمد دخان لفافته، ويتابع قائلاً: "الدفاع الوطني الذي أنا واحد من مقاتليه أشبه بعصابة فرضتها الظروف علي، بل هو عصابة حرب بامتياز فهو يضم ضمن قادته أخطر مجرمي الساحل الذين كان لهم نشاطات غير قانونية قبل الحرب، وازدادت نشاطاتهم وانتشرت ممارساتهم بشكل سرطاني خلال السنوات الأخيرة فكل شيء لديهم بثمن".
يستغل عناصر ميليشيات النظام وجودهم على الحواجز الطرقية فيفرضون الأتاوات على السائقين، ويبتزون كل من تشير بطاقته الشخصية إلى أنه من إحدى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وطبعاً لا ننسى أنهم ملوك "التعفيش"، (التعفيش هي التسمية التي درج إطلاقها على عمليات سرقة العفش والأثاث الموجود في البيوت التي هُجّر أصحابها نتيجة العمليات العسكرية في المنطقة) بحجة أن ما يتم الحصول عليه بعد دخول تلك المناطق"غنيمة حرب" مستحقة لمجهودهم في الزود عن وطنهم ضد العدو.يقول محمد تلك العبارة ساخراً مبيّناً أن السرقات تطال حتى بيوت أهل اللاذقية وكذلك ريفها المنكوب، وينهي حديثه بالقول "حاميها حراميها".
اللاذقية الجديدة
سكان اللاذقية اليوم ليسوا من أهلها فقط، فهناك آلاف العائلات التي نزحت من مناطق مختلفة من سورية، ولهؤلاء تجاربهم المؤلمة. منهم أبو عامر، رجل أربعيني من محافظة الرقة، استطاع الخروج من الرقة بعد سيطرة داعش على المدينة، وانتهى به المطاف في اللاذقية ليعيش ما يعيشه سكانها من مشكلات معيشية، علاوةً على ما يواجه من متاعب بسبب هويته: "أتمنى لو ذبحت ولم أستطع الهروب من داعش. أقف على الحواجز يوميا ويتم التحقيق معي ويسألوني كيف هربت ولماذا؟ فأجيبهم الحقيقة: حالفني الحظ واستطعت الهروب لأني أرفض العيش في ظل أولئك المجرمين. لكن عناصر الحاجز يشككون بي دائماً، وفي كل مرة عنصر يحقق من جديد، والكل ينظر لي على أنني عميل لكثرة التحقيقات، وبعد كل تحقيق يسخرون مني قائلين "لو ذبحت لارتحت" وأقول في نفسي (نعم)بسبب الذل الذي أعيشه"
التجربة الأغنى هي للنازحين من أهل حلب، الذين غادروها متجهين إلى الساحل السوري، وقد غيروا من طبيعة المنطقة الساحلية فالميسورين منهم جعلوا مدن الساحل أكثر حيوية وغنى بنقلهم مهاراتهم في التجارة والحرف وافتتاح محلات تجارية ومطاعم وورشات عمل كالخياطة والحدادة وغيرها، فيما زاد الفقراء منهم بؤس الفقراء وبدأ التزاحم للحصول على فتات المساعدات المقدمة من جهات مختلفة، والتي كثيراً ما ينالها من لا يستحقها نتيجة الفساد المستشري.
سعيد مندوب مبيعات من حلب يبلغ الرابعة والأربعين من العمر انتقل إلى اللاذقية مع بداية الاقتتال في حلب. يقول: "كنت أعمل موزعاً للمواد الغذائية في حلب، وبعد تعرضي للسرقة عدة مرات لم أستطع متابعة عملي، فقررت الانتقال إلى اللاذقية. أسكن مع عائلتي وبعض الأقارب في منزل واحد". وعن الأوضاع الحياتية في اللاذقية، يقول سعيد: "أصبحنا عدّة دول ضمن دولة، لكل شخص جماعته والكل أصبح يعمل لهذه الجماعة لأنها تحميه وتؤمن له مستوى دخل عالٍ نوعا ما، أما السياسة فلا أفهم بها دعونا منها" يبتسم غامزاً ثم يوضح: "بمجرد أن تكون الهوية من غير محافظة فأنت عرضة للشك على الحواجز، ولكن بعد فترة تغدو الأمور طبيعية لأنك تصبح معروفاً من قبل عناصر الحواجز، ودائماً أدعو ألا يتغيروا حتى لا أضطر في كل مرة لمواجهة نفس المشكلة من جديد".
الإيرانيون أم الروس؟
في ميكروباص النقل العام "السرفيس"، يخرَق صوت السوخوي هدوء الظهيرة، ويكسر السائق أبو جلال صمت الانتظار الطويل على الحاجز قائلاً: "هذه السوخوي الجديدة التي قامت روسيا بإرسالها حديثاً"، ثم يعدد مزاياها وقدراتها القتالية كأنه شارك في تصميمها، ويشاركه بعض الركاب الحديث، فيدلي كلٌ بدلوه حول الوضع الراهن بأريحية لم تكن معهودة من قبل. يقول أحدهم "يا أخي تدخل روسيا أفضل من تدخّل إيران، على الأقل هي دولة ليس لديها مشروع ديني كمشروع التشييع عند الإيرانيين". وبين مؤيد لهذا الرأي ومعارض له، يعلو صوت أبي جلال لضبط النقاش، فهو صاحب برنامج الحوار"السرفيسي" بالقول: "روسيا وإيران من الدول الكبرى ولم تتدخلا كُرمى عيون السوريين، وإنما لضمان حصتهما ومصالحهما بعد أن تنتهي الحرب" ويستطرد السائق المخضرم: "لو أرادت روسيا أو إيران حقاً مساعدتنا لما وصلنا إلى هنا، روسيا تريد الاقتصاد والمنافع العسكرية، وإيران من يوم يومها تحارب من أجل الدين باستخدام الدين". غالبية الركاب يرون أن تدخل روسيا وتقوية نفوذها سينعكس إيجاباً على الاقتصاد السوري وبالتالي على معيشة الناس، ويضحك أبو جلال معلّقاً: "سوف يتوفر المازوت والبنزين" بينما يصر أحد الركاب الملتحين على تفضيل وجود إيران فهم على حد تعبيره "إخوة في الدين ويمكن الوثوق بهم".
أما محمد، المقاتل في الدفاع الوطني، فيعتقد أن الروس والإيرانيين يبحثون عن مصالحهم والكل مستفيد "إيران حققت صفقتها على حسابنا والروس يختبرون أنواع الأسلحة، وفي الوقت نفسه لا يمكن نكران دورهم في حمايتنا، لديهم الإمكانيات والأساليب المتطورة، ونحن بوابتهم على العالم في المستقبل." يقول محمد، ويضيف بأسف "جميع الروس والإيرانيين الذين صادفتهم أثناء عملي، كانوا مهنيين في أداء مهماتهم، لم يحملوا هواجس المكاسب الهزيلة عكس ما يسعى له معظم زملائي في الدفاع الوطني".
بعد خمس سنوات..
شادية، الموظفة الثلاثينية، سلطت الضوء على نقطة محددة بالقول: "مابين السنة الأولى للثورة أو للأزمة أو للكارثة ـــ سموها ما شئتم ـــ وصولاً إلى السنة الخامسة شهدت تغييراً كبيراً في مواقف الناس من النظام". ووفقاً لشادية "في البداية كان هناك الغالبية من المتحمسين لفداء الوطن وقائد الوطن بدمائهم، وفي كل نقاش محتدم، يعدّ أي منتقد لسلوكيات النظام خائن وعميل، وينهال سيل التبريرات الساذجة دفاعاً عن الممارسات الوحشية التي يقوم بها النظام في المناطق التي خرجت ضده، ويتّخذ المبرّرون من صمت المعارضة عن الانتهاكات التي ترتكب باسم الثورة ذريعةً للتشكيك بقيم الثورة وبمصداقيتها".
اليوم بعد مرور خمس سنوات وتفشي الفساد بشكل واضح للعيان، ووقوع الظلم على هؤلاء المضحين في سبيل النظام من قبل ممثليه فقد خفتت حدة الدفاع عنه كما تقول شادية، وتضيف"يمكن القول إنها اختفت عند كثيرين اكتووا بنيران الظلم غير المبرر، وبقيت حالات فردية على كثرتها. لكن غياب روح المواطنة واحترام الإنسان الفرد جعل كل امرئ يتلقى السياط على ظهره دون أن يتألم لأجله الآخرون".
معاناة سكان "المناطق الموالية" من الحرب وتذمّرهم لا تقتصر على ممارسات النظام وميليشياته بحقهم، فالسيارات المفخخة وسقوط القذائف والصواريخ إضافة إلى وصول جثامين أبنائهم يومياً قادمين من جبهات القتال تذيقهم كغيرهم من السوريين كأس مرارة المأساة السورية، مما جعل حال غالبية الموالين مشابهاً لقول الشاعر: "وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ / فعلى أي جانبيك تميل".