الرقابة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (1)


16 حزيران 2016

اعتُقِلَ أحد النشطاء الإعلاميين في منطقة الغوطة الشرقية أهم معاقل المعارضة السورية قرب العاصمة دمشق أوائل الشهر الحالي، على خلفية تقرير مصور أعده، يعرض استطلاعاً لرأي الناس يتناول بشكل ساخر مستقبل سوريا بين بشار الأسد والبغدادي.

اتُهمَ الناشط عبد المعين حمّص بـ "الإساءة للثورة"، سُجِن لعدة أيام، فَقدَ عمله، وصدر قرار بمنع الوسيلة الإعلامية التي نشرت التقرير من العمل في هذه المنطقة. كما تعرض أحد الأشخاص الذين ظهروا في هذا التقرير إلى الضرب المبرح من عناصر مسلحة لم تتم محاسبتهم فيما بعد. كل ذلك تم بعون القضاء المحلي وتحت شعار حماية الثورة.

لا معارضة واحدة؛ لا سلطة ولا حرية واحدة

أظهرت تجربة الخروج عن سيطرة النظام في سورية خلال سنوات أشكالاً مختلفة من السلطة في هذه المناطق؛ حكم منفرد وإن بشكل غير مباشر (الإدارة الذاتية، الغوطة والدولة الإسلامية) في حين غلب الحكم المشترك بين الفصائل على أكثر مناطق البلاد بصيغة محلية (المنطقة الجنوبية، حلب) انزاحت بعض هذه المناطق نحو تطبيق متشدد لمفهوم الحكم الإسلامي السلفي (ادلب). أما النسبة الأكبر من هذه المناطق فتخضع لسلطة تنظيم الدولة الاسلامية.

اعتُبر القضاء في مجمل هذه المناطق مرجعية أصلية للفصل بقضايا وأمور الإعلاميين، فعززته السلطة بقوة تنفيذية في بعض المناطق مع استمرار التجاوزات من الفصائل لتصفية حساباتها مع الناشطين أكثر من مرة. احتكرت السلطة العمل الإعلامي في مناطق سيطرة تنظيم الدولة بينما شهدت بقية المناطق تجارب بناء النقابات والاتحادات الإعلامية بشكل متفاوت من حيث العمل المؤسساتي والفاعلية.

يعاني الناشطون الإعلاميون اليوم من المضايقات والتضييق، خطر الاعتقال، الاختطاف، بالإضافة الى مصاعب الحياة التي يفرضها ظرف هذه المناطق من حرب وانعدام في سبل الحياة.

تتوالى الفقرات التالية لتعرض تجربة كل من هذه المناطق بناءً على ما تقدم، كما يراعي التسلسل تأثير الفكر السلفي المتشدد، بالإضافة الى ما يتعلق بالقوانين والأعراف الناظمة لحرية العمل الإعلامي ومدى احتكاره من قبل السلطة.

قانون إعلام في مناطق خارج سيطرة النظام

تعتبر المناطق الشرقية والشمالية ذات الغالبية الكردية في سورية من أكثر المناطق التي عانت من إهمال وقمع النظام القائم في دمشق. عَرف مجتمع هذه المناطق أشكال النشاط الإعلامي السري المعارض لسنوات سبقت عام 2011، فكان توزيع النشرات والصحف المحظورة التي تتحدث عن طموحات هذا المجتمع ومشاكله.

خرجت هذه المناطق سريعا عن سلطة النظام المباشرة لتبدأ تجربتها في بناء ما سمي لاحقا بالإدارة الذاتية والتي لعب دور أساسي في تأسيسها وساهم في ترسيخها حزب الاتحاد الديمقراطي (سوريا) المتهم باحتكار السلطة فيها. ويشارك في هذه الإدارة طيف واسع من الأحزاب والحركات والتجمعات الدينية والاثنية.

أنشأت سلطة الإدارة الذاتية لاحقا مديرية خاصة للإعلام مهمتها إصدار تصاريح العمل للمؤسسات والمراسلين. وكان أول تعميم أصدرته الإدارة منذ أشهر عنونته بـ "تعريف بقواعد سلوك التعامل مع الصحفيين" أكد على مسؤولية السلطة "الأخلاقية" لتسهيل عمل الصحفيين. وكانت المديرية قد ألغت سابقا تراخيص جميع المؤسسات ودعتهم لتقديم تراخيص جديدة.

استُكمِلت منظومة السلطة الإعلامية فيما بعد بقانون للإعلام وإنشاء مجلس أعلى في مناطق الإدارة الذاتية. ورغم الانتقادات التي وجهت للقانون بتقييده الحرية الصحفية وفرض الرقابة عليها، إلا أن المنظمات الصحفية المحلية فشلت في إحداث أي تغيير ملموس.

وتوجه انتقادات كثيرة للإدارة الذاتية وآلية تعاطيها مع الملف الإعلامي، فسجلت العديد من حالات الاعتقال على خلفية الرأي السياسي كما حصل مع الناشط "آزاد عشو" الذي اعتقلته سلطات كانتون الجزيرة على خلفية انتمائه الحزبي. وأصدرت سلطات كانتون عين عرب/كوباني منذ أيام قرارا رسميا بوقف عمل قناتين (أورينت وروداو) ومنع أي صحفي أو مسؤول من التواصل معهم "إلى حين تغيير سياستها" بحسب ما ذكر البيان. وكانت مديرية الإعلام في الإدارة الذاتية قد ألغت سابقا تراخيص جميع المؤسسات ودعتهم لتقديم تراخيص جديدة.

ويعتقد الصحفي "مصطفى عبدي" الذي برز كواحد من الصحفيين في الساحة السورية خاصة خلال معارك عين العرب/كوباني مسقط رأسه، من خلال تجربته أن أهم مشاكل العمل الصحفي في مناطق الإدارة الذاتية هي ارتباط المشهد الإعلامي بشكل مباشر بالسلطة المحلية "الحزب" حسب تعبيره، ليتسع تأثيرها شاملاً كامل المجتمع.

"حتى غير المتحزب منهم، تجده يساير السلطات ... الإعلام المحلي المستقل منه والمتحزب يعتبر في خانة واحدة، وتغازل السلطة، بدل أن تحاول البحث عن الأخطاء، أو تطرح مشكلات المجتمع، والكثير من الحقائق المختلفة فهو عجز مثلا عن نقل تبعات حصار عفرين المستمر منذ ثلاثة أعوام." قال عبدي.

الرقابة الذاتية، رقابة النقابة الحرة

تمثل تجربة مناطق سيطرة المعارضة في الغوطة المحيطة بدمشق نموذجا متقدما من حيث التنظيم والهيكلة بين باقي تجارب المعارضة. من حيث تشكيل كيان حاكم جماعي التزم توحيد السلطة في الجوانب الأساسية للحياة اليومية.

شهدت الغوطة العديد من حالات الاعتقال والاختفاء كما في حالة نشطاء دوما الأربعة الذين اختطفوا أواخر عام 2013، حيث اتُهم جيش الإسلام بالوقوف وراء اختفائهم. مرت المنطقة لاحقا بفترة من تصفية الحسابات بين جيش الإسلام وأحد أكبر الفصائل المحلية حينها (جيش الأمة) والذي أقصي لاحقا.

ويقول الناشط الإعلامي محمد المقيم في الغوطة الشرقية "شهدت الغوطة الكثير من المشاكل بيننا وبين الفصائل، حلولها كلها أدت بنا الى شكل من أشكال التنظيم ... أكبر مشاكلنا الآن هي المشاركة المدنية في الإدارة التي يسيطر عليها مبدأ المحاصصة بين القوى المحلية الكبرى."

في أواخر عام 2014 أسست القيادة الموحدة للغوطة الشرقية، وتَبع ذلك إنشاء العديد من المؤسسات الموحدة لكافة أرجاء الغوطة كالقضاء مثلا. كما أسست في نفس الفترة وكـ "نقابة" موحدة؛ رابطة الإعلاميين في الغوطة الشرقية التي وضعت ميثاق شرف للإعلام مدعما بسلطة القضاء الموحد.

لا يحتاج الناشط الإعلامي للحصول على تصريح للعمل على أي مادة أو التصوير في أي من المناطق المدنية في الغوطة، وتبقى المناطق المعلنة عسكريا والجبهات والمواضيع الحساسة الخاصة بأي من الفصائل مجالات محكومة بالموافقة التي تعتبر بالمجمل أمرا روتينيا تحكم العلاقات الشخصية وقوة علاقات هذا الناشط مع الفصائل والقادة.

في الغوطة، لا توجد أي ممارسة لرقابة منظمة، ولكن "الرقابة داخلية، لأن الخوف داخلي" بحسب تعبير الناشط محمد المقيم في المنطقة. ويضيف أن الكثير من الجهات تستغل أوضاع الغوطة وناشطيها للتأثير على عملهم الإعلامي وتحويله إلى مصلحتهم.

وفي حين يفرض العرف في الغوطة للاحتكام للقضاء في حل الخلافات عامة ومنها تلك التي تخص الناشط، فقد سُجّل عدد من حالات الاعتقال التي قامت بها الفصائل بشكل مباشر متجاهلة هذا العرف.

وتوثق التقارير حالات اعتقال على خلفية انتقاد الناشطين لتحركات الفصائل، كما في حالة "عمر دمشقي" الذي انتقد إعدام فصيل محلي "الأنصار" لمدني دون محاكمة، مما أدى إلى اعتقاله من قبل هذا الفصيل. وفي يوليو تموز الفائت، اعتقل جيش الإسلام الناشط أنس الخولي بتهمة التورط في محاولة اغتيال لقائده، في حين نقلت تقارير أن السبب كان تغطيته لمظاهرات معارضة له، حاولت "النقابة" رابطة إعلاميي الغوطة الشرقية حينها التدخل ليقتصر عملهم على التوصل والاستنكار. كما أثارت قضية اعتقال جيش الإسلام – لأسباب قد تكون جنائية - لوالدة مراسلة الجزيرة سمارة القوتلي الكثير من الجدل حول إمكانية العمل الصحفي في الغوطة.

يتهم ناشطون هذه "النقابة" أنها أداة بيد الفصائل لتضغط بها على الإعلاميين وتحاول السيطرة عليهم.

المناطق المختلطة، الكثير من الطباخين!

الرقابة الجماعية/الذاتية

في المنطقة الجنوبية تتعايش عشرات الفصائل المعارضة للنظام ليسود بشكل متصاعد حكم البيانات العسكرية على العمل الصحفي المتعلق بالمستجدات على الجبهة وحكم مساحات السيطرة المتقاطعة، تاركاً معظم المناطق المدنية حرة للعمل الإعلامي.

استقرارٌ قلق يحكم العلاقة بين الإعلاميين والقوى المسيطرة على الأرض هناك، باستثناء مناطق سيطرة تنظيم القاعدة في بلاد الشام. وبعد فترة غليان وصلت إلى أقصاها عام 2014 أصبح المشهد الإعلامي شديد الهدوء، وساد التكتم على وضع العلاقة بين الناشطين والفصائل.

شهدت الحالة هناك درجات متفاوتة من المواجهة، فسجلت العديد من المضايقات التي تعرض لها الناشطون الصحفيون من قبل مقاتلي الفصائل، ما دفعهم للتظاهر عدة مرات. "الإعلاميون ليسوا سلعة للتداول"، "تريدون إعلاماً يمجد بطولاتكم، ونحن نريد إعلاماً يحمي ويبني وطناً"، هي رسائل للفصائل وجهها إعلاميون ظهروا في أحد مقاطع الفيديو التي توثق هذه المظاهرات. كما توثق صور التقطت في عام 2013 وقفةً احتجاجية للإعلاميين في درعا حجم الهوة واتساعها.

شهد النصف الثاني من عام 2014 تصاعداً خطيراً في الأحداث، قُتل الناشط الصحفي أحمد المسالمة الذي كان يعمل مع أحد المؤسسات الإعلامية المحلية برصاص مجهولين. تبع ذلك اغتيال الناشط قيصر حبيب في سريره في المستشفى على يد عناصر أحد الفصائل المحلية التابعة للجيش الحر على خلفية ما وصف حينها بنزاع بين الناشط وأحد قادة الفصائل أدى لإطلاق نارٍ قتل على إثره القائد وأصيب حبيب. أحيلت الحادثة إلى القضاء الذي وصفه عناصر هذا الفصيل بـ "التراخي"، فاقتحموا المستشفى حيث كان يتعالج الناشط وقتلوه.

يسجل تقرير أصدرته لجنة حماية الصحفيين الدولية عام 2014 تصاعد حالات الناشط الصحفي الذي يعمل لحساب أحد الفصائل في الوقت الذي يعمل فيه لصالح مؤسسة إعلامية أو بشكل مستقل. ويقول التقرير "هذا المزج بين الصحافة والقتال ليس بالأمر الجديد في سوريا، إذ ينظر المحاربون هناك إلى الإعلام باعتباره ميداناً آخر من ميادين المعركة."

ويتحقق التقرير من مرجعية الناشطين الذين تعرضوا للاغتيال، قائلا إن المسالمة الذي كان يعمل مع مؤسسة نبأ، والذي قالت الجزيرة أنه قتل وهو على رأس عمله لديها، عمل سابقا لدى النصرة. معتبرةً أن هذا التداخل في العلاقات يضعف من مصداقية الإعلامي، ويؤدي الى تبعيته لاحقا لإحدى الجهات بشكل أو بآخر.

واكتفى الصحفي منتصر أبو نبوت الذي عمل لدى قناة الجزيرة في المنطقة الجنوبية بتقسيم الرقابة الى "أخلاقية" تختص بسلامة المدنيين، بالإضافة إلى الـ "رقابة من الفصائل" معتبرا أن لا شيء محرم عن النشر.

المقال نتاج تعاون بين خمس منظمات إعلامية سورية بهدف تسليط الضوء على الحكايات السورية بطريقة عميقة، وهي:حكاية ما انحكت، مؤسسة أريح للصحافة الاستقصائية، راديو روزنة، سيريا ديبلي، مركز توثيق الانتهاكات في سورية.

المشروع بدعم من مؤسسةIMS، وستنشر المقالات بصيغة مختصرة باللغة الانكليزية على وكالة UPI

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد