في بداية الثورة، كان إذا خرج أحد سكان ريف جبلة ليلاً من منزله، يصادف سيارة تمشي على مهل، ثم تتوقف عند أحد الجدران، أو بجانب لافتة تحوي عبارة مؤيدة للنظام، ينزل منها شاب ملثم، في يده قنينة بخاخ، يقوم بالكتابة على الجدار أو اللافتة، ثم يغادر سريعاً، قد نصادفه أمام مدرسة أو بناء حكومي أو حديقة، حيث يكتب كلمات "حرية، ثورة، الشعب يريد إسقاط النظام"، كان ذلك أيمن سليمان الذي قتله الجيش الحر في معركة حلب يوم الاثنين 01/08/2016.
أيمن الذي حصل على دبلوم هندسة بترو كيمياء من جامعة حمص، جاءته فرصة لإكمال دراسته في أوكرانيا، لكن تزامن ذلك مع بدء الثورة عام 2011، فقرر أن يبقى في سوريا، وما غيَّر أيمن المنحدر من قرية مؤيدة للنظام في ريف جبلة، أنه سافر إلى حمص في بداية الثورة، فاختلط لأسبوع بأصدقائه الذين خرجوا خلال المظاهرات الأولى، ثم عاد إلى قريته بشعور جديد، فقد كان ضد النظام تماماً، وأراد أن ينخرط في الثورة بكل ما يملك من إمكانيات.
بدأ نشاط أيمن الثوري مع ابن عمه الذي يملك سيارة مدنية، وقد وضعا خطة لكي يتفادا اعتقالهما على حواجز النظام المنتشرة في ريف جبلة، فقاما بتركيب نمرة مزورة للسيارة، لكي لا يعرف أحد صاحبها في حال قام الأمن بتصويرها، هكذا تنقل أيمن بين قرى "البراعم" و"البرازين" و"الزهراء" المحيطة بجبلة (شمال غرب سوريا)، حاملاً علبة بخاخ تُستخدم للكتابة على الجدران، وفكرة البخ كانت قد انتشرت بشكل كبير في بدايات الثورة السورية، لا سيما في محافظات إدلب وحمص بانياس ودمشق، فقد كان الناشطون يكتبون على الجدران ومغاليق المحلات عبارات مناهضة للنظام، ووسيلتهم إلى ذلك أسطوانة معدنية تحوي غازاً يتحول إلى سائل بمجرد احتكاكه بالهواء، هذه الأسطوانة مخصصة لفن الغرافيتي، "الكتابة والرسم على الجدران".
بين عامَي 2011، و2013، ازداد نشاط أيمن بشكل كبير على جدران هذه القرى، دون أن تستطيع عناصر الأمن الوصول إليه، ولأنه كان يعيش في محيط مؤيد، فقد تطلب عمله شجاعة وتخفياً في الآن نفسه، فلم يكن يوقع كتاباته بأي اسم، وقد كانت كتاباته تواكب أحداث الثورة، فعندما تم اعتقال المعارض عبد العزيز الخير (في أكتوبر 2012) كتب "الحرية لعبد العزيز الخير، والعار للسجان"، وبعد مجزرة قرية البيضا في بانياس (02/05/2013) كتب "الحسين يبكي بانياس، أنتِ ألف كربلاء"، كان الأهالي يستيقظون كل صباح على مثل هذه العبارات فوق جدران قراهم، يتساءلون عن الفاعل، يراقبون الطرقات، لكن دون جدوى.
بعد تخرجه، عمل أيمن في أرض زراعية صغيرة كانت تملكها العائلة، وهي من هواياته المفضلة، فقد كان يقضي ساعات في هذه الأرض للعناية بنباتات التبغ والزيتون، لكنه كان مطلوباً للخدمة العسكرية، ولم تكن لديه أية حجة يستطيع من خلالها التهرب، ولأن الوضع المادي لعائلته متواضع لم يستطع الهرب خارج سوريا، لذلك اضطر إلى دخول الجيش في أبريل 2013، حيث تم فرزه إلى قطعة عسكرية في مدينة النبك الواقعة في الريف الشمالي لدمشق.
إضافة إلى الوضع المادي السيء، كان الوضع السياسي للعائلة شديد الحساسية، فقد كانوا منبوذين من أهالي قريتهم، لأن والد أيمن كان قد اعتُقل عام 1987 بتهمة الانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي، وأفرج عنه بعد سنوات، لذلك لم يستطع الناشط المتخفي أن يلتحق بالجيش الحر خوفاً على عائلته.
سرعان ما تدهورت الحالة النفسية للشاب ابن الخامسة والعشرين عاماً في حينه (مواليد 1988)، جراء الضغوط التي تعرض لها في الجيش، فقد كان مجبراً على إطاعة أوامر قادته، وفي الوقت نفسه بقي تواقاً للانضمام إلى الثورة، وبعد ثلاثة أعوام من المعاناة، عام 2016، تم نقله إلى محافظة حلب، كان برتبة ملازم، ومسؤولاً عن مجموعة من عناصر المشاة، ولم يُسمح له إلا بإجازة قصيرة قضاها بين أهله بداية صيف هذا العام، حيث كان وجهه يوحي بأنه قد كبُر عشرين عاماً خلال سنوات الخدمة العسكرية، ثم عاد إلى حلب، وبقي فيها حتى قام النظام بتطويقها بشكل كامل في 08/07/2016.
بعد هذا التاريخ بأيام، أعلنت كتائب المعارضة عن ملحمة حلب الكبرى التي هدفت إلى فك الحصار عن حلب، كان أيمن في إحدى مقرات جيش النظام، وفي يوم الاثنين 01/08/2016، أصابت هذا المقر قذيفة قتلت كل مَن فيه.
في قريته، افتتح أهل أيمن مجلس عزاء، علماً أن الجثة لم تعد إليهم، فكما قال لهم جيش النظام، كانت الجثة متفحمة عقب الحادثة، هكذا اختفى أيمن، وظلت عباراته المؤيدة للثورة حاضرة على جدران قرى ريف جبلة، وفي ذاكرة كل مَن عرفه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
هذه الحكاية رواها لـ (حكاية ما انحكت) أقارب الضحية، وقد طلبوا عدم ذكر الاسم الحقيقي له حفاظاً على سلامتهم.