يوميات محامي في القصر العدلي بدمشق


في هذا المقال، يتابع المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان، ميشيل شماس، رواية ما رآه وسمعه وشاهده خلال تجريته الطويلة في الدفاع عن المعتقلين ومتابعة قضاياهم وملفاتهم، إذ يري بعض الحوادث المؤلمة التي جرت أمامه أو معه.

11 آب 2016

ميشال شماس

محامي سوري وناشط حقوقي في عدد من الملفات الحقوقية أبرزها: الدفاع عن المعتقلين السياسيين

بعد الاعتقالات التي شهدتها ساحة المرجة بحق أهالي وأقارب المعتقلين في السجون السورية الذين اعتصموا أمام وزارة الداخلية بتاريخ 16/3/2011، ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالحرية والكرامة، كرّت سبحة الاعتقالات، وتصاعدت وتيرتها  لتشمل كل من تطاله يد الأمن خلال التظاهرات والاعتصامات، وشكّل الناشطون والناشطات من الشباب الهدف الأبرز لعناصر المخابرات الذين كانوا يعتقدون أنّهم المحرّك الأساسي لتنظيم الاحتجاجات والتظاهرات وكتابة الشعارات، ومع مرور الأيام والأسابيع الأولى بدأت قوافل المعتقلين والمعتقلات تتدفّق إلى قصور العدل في كافة المحافظات، ولا سيما في قصر العدل بدمشق، حيث كانت أجهزة الأمن على مدار اليوم تُحيل المعتقلين جماعات وأفراداً في باصات كبيرة، وقد غصّت نظارة القصر العدلي بدمشق بالمعتقلين، حتى ضاقت بهم.. وزاد عدد الدعاوى الجزائية في محاكم دمشق  بشكل كبير جداً، وكانت التهم الموجهة لهم تتراوح بين إثارة الشغب والحض على التظاهر لأغلبية المعتقلين، أما الناشطين منهم فكانت توجه لهم تهم أقسى وأشد، وغالباً ما كانت التهم جاهزة مثل "الكليشة" ( كالنيل من هيبة الدولة، ونشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة، والانتساب لمجموعة محظورة من أجل قلب النظام، والانتساب إلى جمعية ذات طابع دولي).

ووقع فريق المحامين المتطوعين للدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في ورطة كبيرة أمام هذا العدد الهائل من المعتقلين، فلا الإمكانيات المتاحة ولا عدد أفراد الفريق يسمح بمتابعة الدفعات المتتالية من المعتقلين أمام المحاكم، فقد كنّا حوالي خمسة عشر محامياً ومحامية، ومع ذلك فقد وزعنا المهام فيما بيننا، قسم منّا كان يذهب  لزيارة المعتقلات والمعتقلين في سجن عدرا للنساء وللرجال، وقسم آخر كان يتابع الأسماء المحالة إلى النيابة العامة بدمشق، وآخرون كانوا يتابعون ملفات المعتقلين أمام المحاكم بدمشق وريفها، وأمام القضاء العسكري أيضاً. وبالرغم من كل المعوقات المادية واللوجستية والمضايقات الأمنية، فقد كنّا كفريق نتابع بشكل كبير وعلى مدار اليوم أكبر عدد من المعتقلين والمعتقلات.

وأذكر أنه كنت أذهب يومياً من منزلي إلى القصر العدلي مشياً على الأقدام توفيراً للوقت، وأصل إلى هناك الساعة التاسعة صباحاً، وكنت أتوّجه فوراً إلى سجل الموجوداً لأرى من تمت إحالته إلى القصر العدلي، ثم أقصد "النظارة" مكان احتجاز المعتقلين  قبل عرضهم على القاضي، حيث كنت ألتقي بالمعتقلين الجدد، وأستمع منهم إلى ظروف اعتقالهم وأسمائهم وفي أيّ فرع كانوا، وإذا كانوا يريدون إخبار أهاليهم بأنهم أصبحوا في القصر العدلي.. وكنت أقدّم لهم الإرشادات القانونية، وكيف يجب أن يتصرف أمام القاضي، وأوضّح لهم أنّ الاعترافات الأمنية لا قيمة لها باعتبارها تمت تحت الضرب والشدة وانتزعت بالإكراه، وبإمكانهم إنكارها أمام القاضي.

 وهذا العمل كان يقوم به جميع أعضاء فريق الدفاع، وأخص منهم الأساتذة: خليل معتوق وأنور البني وابراهيم القاسم ورزان زيتونة وناظم حمادة وآخرون لا يسمح الظرف الآن بذكر أسمائهم.

 كانت زيارتي وزملائي للمعتقلين في النظارة كالبلسم لهم، تشعرهم بالارتياح والاطمئنان، وكثير منهم كانوا يطلبون منّا الاتصال بأهاليهم وإخبارهم أنّهم بخير وصحة جيدة، وفي إحدى المرّات اتصلت بأهل أحد المعتقلين في ركن الدين، وأخبرتهم أن ولدهم "أحمد" بخير، وقلت لهم إن كنتم ترغبون برؤيته فهو الآن في القصر العدلي، وقد يُفرج عنه اليوم، فوجئت بسماع زغاريد على الهاتف وأنا أنادي ألو ألو .. وبعد برهة سمعت صوت أنثوي فكانت والدته، تشكرني  بلطف زائد، وأبدت رغبتها بالمجيء لمشاهدة ابنها، وفعلاً وبعد حوالي نصف ساعة حضرت هي وزوجها وتعرفت عليهما، وسألتني والدة أحمد بلهفة مجنونة "أين أجد أحمد؟"، فقلت لها: "يا خالة انتظري قليلاً سترينه، سيأتون به إلى مكتب القاضي"، وبعد خمسة دقائق تقريباً، شاهدت ابنها بصحبة شرطيين، وهو مكبّل اليدين وثيابه رثة ومتسخة وذقن طويلة، حاولت الأم التقدّم نحوه لمعانقته، لكنها انهارت، ووقعت أرضاً من شدة الانفعال، وابنها يرنو إليها بلهفة دون أن يستطيع الفكاك من الشرطة، والقيد في يده.

 نهضت الأم، وأعطينا الشرطي "يلي فيه نصيب"، ليسمح بعدها لوالدته بمعانقة ولدها لأقل من دقيقة، وأوضحت لأحمد ما يجب فعله عندما يستجوبه القاضي، وأن لا يخاف شيئاً، وأن ينكر التهم الموّجهة له.

 بعدها رنّ جرس القاضي، معلناً بدء الاستجواب، دخل أحمد وهو مزوّداً  بمحبة والديه ودعواتهم، وكان الانتظار طويلاً جداً، مضت ربع ساعة من التحقيق كأنها سنة بالنسبة لوالديه، خرج بعدها أحمد من مكتب القاضي، وهو في غاية الفرح  وبلا قيود، واندفع كالمجنون يعانق والديه ثم جثا على ركبيته، وأخذ يقبّل قدمي والدته. استمر المشهد لدقائق قبل أن يُنهي الشرطي هذا المشهد المؤثر بطلبه من "أحمد" النزول معه مجدداً إلى النظارة لاستلام موبايله وأغراضه. ارتعبت والدته وخافت من أن يأخذوه مجدداً، فقلت لها: "لا تخافي  يا خالة اطمأني أنا رح انزل معه إلى النظارة"، وأثنا نزولنا الدرج، وكل ما صادفنا شرطي يطلب الحلوان، متل الشحادة  كالعادة.. وقبل أن يغادروا القصر العدلي ناولني والده ظرفاً، فسألته: ما هذا؟ أجاب هذا مبلغ بسيط، حق فنجان قهوة لوقفتك معنا. أصبت بحرج، واحمّر وجهي، وأعدت له الظرف، وقلت له: ما فعلتُ شيئاً، هذا واجبي والناس لبعضها ونحنا لخدمتكم... ويكفيني دعائكم .. وفرحتكم هي فرحتي أيضا.

هذه الحالة الإنسانية، كانت تحدث معنا يومياً تقريباً في محاكم القصر العدلي ونظارة التوقيف على مدى ثلاث سنوات، حتى نهاية عام 2013 عندما لم تعد الأجهزة الأمنية تحيل المعتقلين إلى القصر العدلي بدمشق، بل إلى محكمة الإرهاب مباشرة، التي أعطيت صلاحية النظر فيما إذا كان الجرم المرتكب يدخل ضمن نطاق صلاحيتها أم لا، بعد أن كان هذا الأمر من اختصاص القضاء العادي.

(الصورة الرئيسية: عمل فني للفنان أحمد علي. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد