هناك ما يشبه "الإجماع الرغبوي" يضم النظام والمعارضة، ومعارضة المعارضة، على رفض تقسيم سوريا، بل إنّ هذا الإجماع يسانده ويشاركه، من حيث الظاهر، إجماع إقليمي ودولي ضد التقسيم المحتمل.
جميع هذه الإجماعات الرغبوية والظاهرية، الداخلية والخارجية، تتناقض، من جهة، مع العمل القائم على الأرض. وتضمر، من جهة أخرى، رغبة مجمل الأطراف واندفاعها لتحقيق النصر الساحق على الآخرين، وفرض الشروط عليهم بعد تحويل تلك الشروط إلى واقع، أو بالأحرى إلى الواقع.
الكلام عن تقسيم سوريا بدأت وتائره بالتصاعد في السنتين الأخيرتين من عمر الثورة، متزامناً مع الحديث غير الرسمي للنظام وحلفائه عن "سوريا المفيدة"، ثم إعلان الأكراد عن الإدارة الذاتية بقيادة صالح مسلم وحزبه وميلشياته، ثم الحديث الأمريكي عن الخطة ب التي تلمّح بالتقسيم في حال تعذُّر الحل السياسي المطروح في جنيف، ثم جاء بالون الاختبار الروسي على لسان نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، ليطرح قيام اتحاد فيدرالي سوري على طريقة الاتحاد الروسي، ثم عاد مؤخراً الحديث الأمريكي غير الرسمي على لسان رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية جون برينان، الذي صرَّح بتوقعاته حول تقسيم سوريا لثلاث مناطق رئيسية يتقاسمها السنَّة والأكراد والعلويين بشكل أساسي.
حديث التقسيم هذا بما يحمله من تخوُّف وتخويف، وبغض النظر عن مصادره الداخلية أو الخارجية، يطرح مشكلة زائفة برأينا، ويريد استبدالها بالمشكلة الأصلية للسوريين مع نظامهم الفاشي، ومع "الأنظمة" الفاشيّة الصغيرة، التي فرّخها بقاءه القسري طويلاً بعد ثورة السوريين عليه، وهو حديث يخفي مشاكل أكثر حقيقية في سوريا، ويغيِّب ما هو أكثر إلحاحاً وضرورة وأولية من معاناة السوريين الباقين على قيد الحياة اليوم، ويحيِّد النقاش السياسي عن الهدف الأول لثورة السوريين، أي اسقاط الطاغية، في محاولة لاستبطان بقائه وتقاسم "الكعكة" معه إن أمكن. فالتقسيم في سوريا ليس هو المشكلة، (ولا الحل، كما سنقول بعد قليل)، إذ ليس لدى السوريين رفاهية اختيار نظامهم السياسي الآن، في ظل الحرب المستمرة وانعدام السياسة وغياب الشروط السياسية الطبيعية والمناسبة لاختيارهم الحر، وفي ظل البراميل المتفجرة وغاز الكلور والصواريخ الذكية والغبية، بل إن أي نظام سياسي سيأتي في الشروط الحالية لن يكون نظاماً تمثيلياً، بل نظاماً قسرياً، حتى لو كان توافقياً بين الدول المؤثرة. كما ليس لديهم أيضاً رفاهية اختيار شكل الدولة، سواء كانت موحدة ومركزية، أو فيدرالية ولا مركزية، أو مقسمة تماماً على أسس طائفية أو مناطقية أو قومية، فطالما أن شكل الدولة يتم رسمه بالسلاح، وبالقوة المحضة وحدها، وطالما أنه يتحدد من الخارج وعبر التوافقات الدولية والاقليمية أكثر من الداخل، فإننا لن نكون أمام دولة، أو دول، شرعية وذات سيادة، بل إن ذلك سيكون إعادة لتجربة الدولة المشكَّلة بتوافقات استعمارية في القرن الماضي من جديد، تلك الدولة التي أثبتت فشلها الكامل وفقدانها للشرعية الداخلية، وقيامها الدائم على شرعيات خارجية لا تخص سكانها ولا تهتم لخياراتهم، ومن المعروف أنّ تلك الأنواع من الشرعية لم يكن لها من وظيفة أكثر من كتم الأنفاس الداخلية وتحطيم السياسة ومنعها، لتنصِّب نفسها حامية للسكان "المتخلفين" من بعضهم البعض، وحامية للخارج (مصدر الشرعية) من منازعات الداخل المقلقة. هذا ما جرى حرفياً ضمن الدولة الأسدية وما يمضي لتكراره أمثال البغدادي وصالح مسلَّم، وبعض الذين لم يظهروا بمشاريع متكاملة بعد.
لكن عدم الخوف من التقسيم، لا يصحّ إلا عندما يكون شاغلنا الأساسي ومحرك فعلنا هو الشعب السوري، وليس الأرض، ولا التاريخ ولا اللغة ولا الموارد؛ وهو منطق لا يعجب العديد من أصحاب اليسار الممانع، ولا القومي العروبي، ولا الشيوعي الكلاسيكي، ولا أنصار الخلافة والأمة الإسلامية، ولكن عندما ننظر إلى هؤلاء البشر الذين يتشكل منهم ما يسمى تجريداً "الشعب السوري"، سنرى أنه ضمن الشروط الحالية فإنّ معاناتهم مستمرة، سواء تقسّمت سوريا أو بقيت موحدة، وسنجد أنّ الغالبية المطلقة من هذا الشعب تعيش مآسي الحرب بأوجه مختلفة ودرجات متفاوتة، فقد تختلف درجة المأساة وشكلها ونوعها داخل سوريا، بين مناطق النظام أو مناطق داعش، أو المناطق المحرّرة من قبل الجيش الحر والفصائل الإسلامية المتنوعة، كما يختلف شكل المأساة ونوعها خارج سوريا، في مخيمات اللجوء أو خارجها، في الدول المجاورة لسوريا أو في أوروبا...الخ، لكن ما يجمع الجميع في حلقة واحدة هو المأساة الكبرى التي ما يزال خالقها ومؤسسها وراعي استمرارها الأساسي قابع في قصره في دمشق، يحمي بقائها ببلاهته المعهودة، ويحمي دوره المباشر وغير المباشر في اللعبة الدولية التي تلعب به وبسوريا وبالشعب السوري وتحوّل الجميع؛ بمن فيهم هو ذاته، إلى "ضحية" أو أضحية سيتم التخلص منها عندما تنتهي صلاحيتها وتتضح خيوط التوازن والتوافق بين اللاعبين الإقليميين والدوليين.
إن لم يكن تقسيم سوريا هو المشكلة كما نزعم في هذه الورقة، فإنه ليس الحل أيضاً بأي شكل من الأشكال، فالحل يجب أن يأتي من جنس المشكلة لا من خارج سستامها كله، ومشكلة السوريين لم تكن أنهم غير قادرين على التعايش قبل الحرب، بل في أنهم غير قادرين على التعبير ولا الاعتراض ولا المعارضة ولا التمتع بثروات بلادهم، مشكلتهم في أنهم كانوا يرزحون تحت ثقل التمييز الطائفي والحزبي والأمني وسلطة الفساد والقمع والترهيب والإرهاب، مشكلتهم في نظامهم المافيوي الذي عيَّشهم طوال عهده المديد تحت رحمة قانون الطوارئ والأحكام العرفية والحزب القائد للدولة والمجتمع، ومشكلتهم في نظامهم "العروبي" الذي حرم ربع مليون كردي من الجنسية السورية ونظامهم "القومي" الذي احتل لبنان وشارك باحتلال العراق، ليسلم أخيراً البلد لإيران، والحل الأولي؛ ولا نقول النهائي، لتلك المشاكل لابد أن يبدأ بإزالة هذا النظام والتخلص من أبديته، إلى الأبد.
لا نعتقد أن مشكلة سوريا إن كان لديها عَلَمٌ واحد أو أعلام متعددة، لغة رسمية واحدة أو لغات متعددة، فالمشكلة في الطريق وليس في الهدف، فإن كان الطريق إلى علم واحد سيأتي بحدِّ السيف؛ على طريقة البغدادي، أو بالكيماوي؛ على طريقة بشار، فإنه لن يكون علماً وطنياً، ولن يبني وطناً قابلاً للعيش. وإن كانت اللغات المتعددة ستأتي عبر كيانات صغرى فوق دولتية على طريقة صالح مسلَّم والبي واي دي، فإنها لن تكون سوى كيانات محتلة لشعبها بالدرجة الأولى، ولن تخلق سوى محيط معادي بالدرجة الثانية. ولذلك فإن الطريق إلى سوريا القادمة هو ما يجب التركيز عليه وصبُّ الجهود فيه، وذلك عبر السياسة كحدٍّ على الحرب، وعبر التوافق كحدٍّ على الإقصاء، وعبر الاعتراف كحدٍّ على الاختلاف. وإن كان الصوت الأعلى اليوم هو للرصاص، فعلينا ألا ننسى أن هذا الصوت سيخرس إن لم يجعلنا جميعاً أصماء، والسوريون الذين خرجوا ليُسمَع صوتهم لن تسكتهم فاشية جديدة، علمانية كانت أم دينية أم قومية.
ربما كان الطريق طويل ومأساوي لكن العودة عنه أطول وأكثر مأساوية، وهذا حافز جيد للإرادة، وموقف حازم؛ لابد من رؤيته عند الشعب السوري، أمام التاريخ.
( الصورة الرئيسية: ضمن حملة "الحرية لابد منها" قامت احتفالية الشارع السوري بالاشتراك مع فريق حملة "عيش" ببخ مجموعة أعمال في شوارع كفرنبل ضمن فعاليات الدورة الثالثة لاحتفالية الشارع السوري، حيث كانت العبارة في الصورة المرفقة " الحرية لا بد منها ")