لستُ أبحثُ عن شهرةٍ أو جاهٍ، بل لأستحضر سوريتي بحلوها ومرّها، لعلّها تؤنس غربتي بعد أن أصبحتُ لاجئاً أعيشُ عالةً على الشعب الألماني المشكور، ولأنقل أيضاً بعضاً مما شاهدتهُ وعايشتهُ في عملي كمحام مهتم بالدفاع عن حقوق الانسان ومعتقلي الرأي والضمير.
عندما كنتُ في بيروت أراجعُ طبيباً، سألني صحفي فرنسي قُبيل "انتخابات" الرئاسة السورية التي جرت في أواسط عام 2014 لماذا لا ترشحَ نفسك الآن بعد أن سمحَ الأسد بالتعددية السياسية، وقد رشّحَ مسيحي نفسه للرئاسة؟ قلتُ له: "إنَّ تَرشُّحْ مسيحيين للرئاسة هي مسرحية أمنية هدفها إيهام الناس بأن هناك انتخابات حقيقية، فالمادة الثالثة من دستور 2012 تشترط أن يكون الرئيس مسلماً: (دين رئيس الدولة هو الإسلام)، النص واضح وضوح الشمس، وهو يَحرم المسلم من حقه في اختيار رئيس غير مسلم قبل أن يَحرم المسيحي من حقه الترشح للرئاسة".
مناسبة هذا الحديث هو ما تعرضتً له من تهكم وسخرية لمجرد أنني طرحتُ اسمي رئيساً للحكومة عندما تم استدعائي في أواخر تموز 2011 لفرع المعلومات الكائن بحي المالكي بدمشق. فقد تلقيتُ حينها اتصالاً هاتفياً من شخص عرّف عن نفسه أنه من فرع المعلومات، طلبَ منّي الحضور إلى الفرع لشرب فنجان قهوة، كانت الساعة حوالي السابعة مساء، لملمتُ نفسي، بعد أن أخبرتُ زوجتي بالذهاب إلى فرع الأمن بناء على طلبهم، ثم استقليتُ تكسي، وفي الطريق أعلمتُ الاستاذ خليل معتوق بالأمر.. وصلتُ الفرع المذكور حوالي الساعة السابعة والنصف، حيث أدخلوني إلى مكتب رئيس الفرع، الذي رحّبَ بي وبيده سيجارة كوبية، بدتْ أطولَ منه، عرّفني على نفسه بأنه العميد ظافر يوسف..
العميد ظافر: ألم تعرفني؟
أنا: عذراً، لا، لا أعرفك عدم المؤاخذة.
العميد ظافر "مستغرباً": معقول.! ألم تشاهدني على التلفزيون؟ أنا يلي ذهبتُ إلى فييّنا وحققوا معي في قضية مقتل الحريري.
أنا: سيادة العميد، أسف، لم يسبقْ لي أن سمعتُ باسمك، وفي الحقيقة لا يهمني من قتل الحريري، بل ما يهمني الآن سوريا.
العميد ظافر: (مقاطعاً) ياعيني عليك تهمّنا سوريا نحن وأنت، ولهيك استدعيناك! تفضل اجلس هنا، شو بتحب نضيّفك؟ قهوة أم شاي؟ أو تشرب معنا كاسة زهورات؟
أنا: مليحة الزهورات، مارح عذبكم.
العميد ظافر: (مبتسماً) والله يا استاذ رح كون صريح معك، أنت كنت لازم تُعتقل من 2007؟
تجمد الدم في عروقي عندما سمعتُ كلمة اعتقال: خير ليش سيادة العميد؟ في شي بدر مني وقتها؟
العميد ظافر: كتبتً مقالاً تهجمتَ فيه على رئيس الحكومة السابق ناجي العطري وتقلت فيه العيار؟
شعرتُ أنه معجب بالمقال، فقلت: كتبتُ ثلاث مقالات عنه وليس واحداً، وأيّ دولة تحترم نفسها لا تضع ناجي العطري رئيساً للوزراء، الذي صُرفَ من الخدمة في السبعينات، ثم أودع سجن الشرطة العسكرية لمدة ثمانية أشهر بتهم الفساد... خرج بعدها دون أن يُحال للمحاكمة، بل ليصبح رئيساً للوزراء، ألم تجدوا أفسدَ منه؟
العميد ظافر: هاي شلناه وحطينا الدكتور عادل سفر، وأكيد عرفت كان عنّا من يومين وفد المحامين برئاسة النقيب ورئيس محامي دمشق، واستمعنا لرأيهم بخصوص كيفية حل الوضع في سوريا، وكما تعرف نحن نستمع لأفكار الجميع دون استثناء.
في هذه الفترة كانت أجهزة الأمن تستدعي وفوداً من وجهاء وعائلات وعشائر، ثم ترتب لهم لقاء مع الرئيس على أساس المشاركة في إيجاد حل للوضع في سوريا.
أنا: نعم سمعتُ بذلك، وكأني أفهم من كلامك أنه لم تعجبكم أراء المحامين؟ وحبيتوا تسمعوا رأي مخالف، فاستدعيتموني إلى عندكم.
العقيد ظافر: ليس بالضبط، بل لأني سمعتُ أنك طرحتَ حلولاً للأزمة التي نمر بها، لذلك اتصلنا بك لنسمع رأيك ونتعرّف منك على مقترحاتك عن قرب.
أنا: نعم لدي رؤية ولكنها تختلف عن رؤيتكم، رؤيتي تستبعد الطريقة الأمنية والعسكرية التي ستقود البلاد إلى الدمار.
العميد ظافر: (مقاطعا) لا يا أستاذ خلصت.
أنا: إذاً لم يعد رأيي مهماً طالما أنها خلصت كما تفضلت.
العميد ظافر: صحيح أنها خلصت، ولكن اقتراحاتك قد تفيد لمستقبل سوريا، ولاّ ما بتحب تساعد سوريا؟
أنا: لا بالعكس سيادة العميد، بما أنكم أعفيتم ناجي العطري وحسناً فعلتم، لكن أن تعينوا وزيراً فاسداً وبعثياً أيضاً، فهذا لن يساهم في الحل، بل سيفاقم المشكلة، البلد يا سيادة العميد تمر بأزمة وطنية طاحنة، وبداية الحل هو أن تنفتحوا على الجميع، وأن تضعوا قوى المعارضة أمام مسؤولياتها وإشراكها في عملية الحل، وهذا يتطلب تعيين شخصية وطنية من المعارضة في رئاسة الحكومة، وليس تعيين واحد بعثي.
العميد ظافر: هات لشوف، متل مين يعني؟
أنا: الدكتور عارف دليلة الشخصية الوطنية والخبير الاقتصادي ذات السمعة العالمية، فأكثرية السوريين تقدره وتحترمه، أجده مناسباً لهذا المنصب مع منحه صلاحيات واسعة وهذا سيساعد على خروج بالبلاد من أزمتها.
العميد ظافر: الدكتور عارف ؟ لا .. لا ما بيزبط أبداً؟
أنا: وليش ما حتي يزبط؟ أنا أضمن لك موافقة "السنة" عليه إذا كان هذا هو العائق؟
العميد ظافر: (ضاحكاً وساخراً) مَنْ أنتَ حتى يسمعوا منك السنة؟
أنا: أنتو كلّفوا الدكتور عارف بالمنصب واترك الباقي عليّ.
العميد ظافر: عم تحكي بثقة كأنك عنتر زمانك؟ هات غيره .. اقتراحكَ مو راكب أبداً.
أنا: طيب، فيه شخص أخر اسمه ميشال شماس..
العميد ظافر: مين ميشال شماس؟
أنا: أنا سيادة العميد هل من مشكلة في اسمي؟
العميد ظافر: (فارط من الضحك) ولك شو أنت مجنون؟ أنت بدك تصير رئيس وزراء؟
أنا: إي أنا سيادة العميد من شو بشكي؟ شو ناقصني حتى صير رئيس للحكومة؟ وبحب طمنك كمان إن "السنّة" رح يقبلوا فييّ. على حد علمي الدستور السوري لم يحدد دين رئيس الحكومة كما فعل بمنصب الرئاسة. رحمة الله عليك يا فارس الخوري، ويرحم تلك الأيام التي انتخبت فيه الأكثرية البرلمانية السنّية مسيحياً لرئاسة البرلمان ثلاث مرات، وأربع مرات كلّفته لرئاسة الحكومة في الخمسينات من القرن الماضي، ولم تتوقف تلك الأكثرية عند انتماء فارس الخوري الديني.
العميد ظافر: (يضحك بسخرية): ولك شو مفكر حالك؟
هنا شغّل العميد جهاز التلفزيون، وكانت مقابلة مع أحد "الإرهابيين" وهو يعترف بالتفجيرات التي قام بها، فنظر إليَّ قائلا: إي استاذ، شو رأيك باعترافات هذا الإرهابي؟
أنا: بدك رأيي كمواطن عادي ولا محامي؟
العميد ظافر: لا طبعاً كمحامي.
أنا: بصراحة هذه الاعترافات حقها فرنك، ولا يعتد بها أمام القضاء، هلق حضرتك اقتلني سأعترف لك فوراً على من سلّم الجولان لإسرائيل ومن تنازل عن لواء اسكندرون..
هنا وقف العميد ظافر متجهماً، وكأنه يريد إنهاء اللقاء، وأشار أن أقف قربه، ثم وضع يده على كتفي وقال: يا أستاذ ميشيل السيد الرئيس أصدر توجيهات بخصوص الوضع في سوريا، وأكيد أنتَ بتحبوا للسيد الرئيس، ولازم نعمل بتوجيهات سيادته.
أمسكتُ يده وأنزلتها عن كتفي: يا سيادة العميد ليس مطلوباً منّي حبّ الرئيس، بل احترام مركز الرئاسة، وبيجوز حبّه وبيجوز لا، وبصراحة أكتر فأنا لا أحبّه. أما بخصوص توجيهاته فلستُ معنياً بها لأنني غير موظف في الدولة، بل سيادتكم المعني بتنفيذها.
وهنا طلب العميد من مدير مكتبه أن يوصلني بسيارة الفرع، فقلتُ له مازحاً: لا أحبذ ركوب سيارتكم، أرجو أن تصرف لي بدلاً منها إيجار التكسي، فقد كلفني المجيء إليكم 150 ليرة سورية. اعتذر وأكدَ على توصيلي بسيارة الفرع، ثم أعطاني كرته، وطلبَ مني أن أتصل معه إذا احتجت لشيء. شكرته وخرجتُ من الفرع.
كان الجو لطيفاً في الخارج ممزوجاً برائحة الياسمين الشامي، مما شجعني على المشي لأكثر من نصف ساعة في شوارع دمشق وأخبرت زوجتي بأنني عائد الى البيت، وفي الطريق كنت أفكر بالحديث الذي دار في الفرع لأكثر من ثلاث ساعات، وأقول في نفسي غير معقول ما سمعته، فالبلد على مفترق طرق خطير، وهم لازالوا يفكرون بعقلية الاستحواذ والاستئثار والقادر على كل شيء، وفي نفس الوقت مازالوا يخافون من الدكتور عارف دليلة بعد أن سجنوه لعشر سنوات، ويخشون من ترشُحي لرئاسة حكومة بلا صلاحيات... يا حسرتي عليك يا سوريا... شو رح يصير فيكِ...!
(الصورة الرئيسية: ملصق إعلامي ضمن حملة دافنينو سوا يطالب بالمساواة بين جميع فئات الشعب السوري .. المصدر : صفحة حملة دافنينو سوا على الفيس بوك)