تجارة أزمة... لكن غير رابحة


تغدو حياة السوريين القاطنين والمحاصرين في جزء من حي القابون و حي برزة البلد كما لو أنها في "ليمبو"، تحت رحمة "مزاج" الحاجز الذي يقاس وفق المسافة الفاصلة بين جيبه المتلهفة للرشوة (فهو جائع وفقير أساساً) والتشدّد في تطبيق "القانون" حين وجود الضابط، لتصبح التجارة بأبسط المواد رهن هذا المزاج الذي يدفع "التجار" للعمل وفق مقاس سوق لا يشبه أسواق العمل المعروفة في الاقتصاد، فالحصار والرشوة والوضع الأمني والحرب الدائرة، فرضت تجارة وسوق خاصين، تجارة تعرف عموماً بـ"تجارة الأزمة"، إلا أنّه حتى هنا تبدو مختلفة عن المعنى المتعارف عليه لهذه التجارة، لأنّنا أمام مناطق محاصرة وليست محاصرة بذات الوقت، ولأنّ المعروف عن تجارة الأزمة أنها توّفر أرباحاً خيالية في ظل ظرف استثنائي، إلا أنها هنا

04 تشرين الأول 2016

رافيا سلامة

صحفية وناشطة نسوية سورية تقيم في ريف دمشق، تكتب لعدد من المواقع السورية والعربية، تنشط في مجالات تمكين المرأة والدراسات النسوية. كما تعمل في مجال السينما الوثائقية.

عدا أيام تصعيد يغلق بها الطريق لأسباب تتكرّر بين حين وآخر: اعتقال أحد سكان الحي، اتهام النظام للفصائل في المنطقة باختطاف مؤيدين وما يشبه ذلك، تغدو حياة السوريين القاطنين والمحاصرين في جزء من حي القابون و حي برزة البلد كما لو أنها في "ليمبو"، تحت رحمة "مزاج" الحاجز الذي يقاس وفق المسافة الفاصلة بين جيبه المتلهفة للرشوة (فهو جائع وفقير أساساً) والتشدّد في تطبيق "القانون" حين وجود الضابط، لتصبح التجارة بأبسط المواد رهن هذا المزاج الذي يدفع "التجار" للعمل وفق مقاس سوق لا يشبه أسواق العمل المعروفة في الاقتصاد، فالحصار والرشوة والوضع الأمني والحرب الدائرة، فرضت تجارة وسوق خاصين، تجارة تعرف عموماً بـ"تجارة الأزمة"، إلا أنّه حتى هنا تبدو مختلفة عن المعنى المتعارف عليه لهذه التجارة، لأنّنا أمام مناطق محاصرة وليست محاصرة بذات الوقت.

الحاجز والتجار: شطارة التفاوض والمناورة

امرأة تجرّ عربة أطفال بثلاث عجلات فقط، الرابعة مكسورة وما من طفل في العربة، بل أكياس خبز وسكر وخضراوات. يلقي إليها العسكري على الحاجز نظرة ثم ينهرها: أنّ عودي فلن تمرّي بتجارتك هذه. تبدأ حملة مكرورة وربما مختلقة من الرجاء والاستعطاف "مالي حدا، أمي عاجزة، ولادي بالبيت...".

لا يحتاج البشر في مكان آخر من العالم للكذب إذ يتاجرون بالطعام، هو طعام ليس إلا، لكنك هنا بحاجة للكثير من الحجج، الكثير من استدرار الشفقة، على حاجز برزة البلد.

بطبيعة الحال لا ينصت العسكري ويزيد من حدّة توبيخه في طرد تعيسة الحظ، لتذهب وتقف جانباً منتظرة، ثم تركض فجأة دافعة عربتها بسرعة بين كومة أطفال مهرولين. انشغل العنصر قليلاً، فهرب الواقفون بقوت وتجارة يومهم. ليسعدوا لحظات بنجاح مهمتهم قبل أن يعودوا مرة أخرى للمرور عبر الحاجز، الذي تستند إلى إحدى زواياه لافتة تقول: "نحن هنا من أجلكم".

طفل من القابون أمام طاولة البيع. المصدر: خاص حكاية ما انحكت
طفل من القابون أمام طاولة البيع. المصدر: خاص حكاية ما انحكت

يوميات أهل برزة والقابون لا تشبه يوميات أخرى. الزمان هنا يشابه أوقاتاً قديمة كان الناس فيها يسيرون مسافات ومسافات للحصول على الغذاء والماء، فبعد توقيع الفصائل في حي برزة الدمشقي، وأجزاء من حي القابون اتفاق هدنة مع النظام بداية عام 2014، أصبح الجيش الحر يسيّر أمور المنطقة بشكل كامل، قضت أبرز بنود الاتفاق بوقف لإطلاق النار بين الطرفين، انسحاب الجيش النظامي، إطلاق سراح معتقلي الحي من سجون النظام، إعادة فتح الطرقات الرئيسية والسماح بعودة الأهالي بعد إصلاح الخدمات. أصبح بإمكان السكان التنّقل من المنطقة وإليها. لكن ثمة مشكلة برزت في أنّ الهدنة تشمل أجزاء من حي القابون دون غيرها، هذا يعني أنّ بعض أحيائها خارج الاتفاقية، وأنّها خاضعة لقوانين حرب خاصة جداً يمارسها النظام، ومعنية بالتالي بحصاره، وقنصه وقصفه أحياناً. ويعني هذا على صعيد يومي أنّ الطعام والدواء ومستلزمات الحياة الضرورية بضائع ممنوعة! ولكن كيف بإمكان النظام إحكام سياسته والإبقاء على هدنته والطريق مفتوحة إلى برزة ومنها إلى القابون؟

 الحل كان هنا منع التجارة، فالنظام يسمح بكل سرور بإدخال الأطعمة الجاهزة، وبعبور محدود لا يتكرّر كثيراً.

إحكام الحصار!

منع تجارة الطعام ضروري لإحكام الحصار، فالجوع أو الركوع سياسة أجدت نفعاً لم يتيّسر لغيرها حتى الآن في دفع المدنيين لتمني عودة أيام (اللولو) كما تسميها النساء اللائي عبرن الحاجز بتجارتهن الصغيرة بسلام ليصلن سيارة السوزوكي التي تحوّلت إلى وسيلة النقل العام الداخلية بين برزة والقابون.

 تترحم إحداهن على صناديق الخضار التي كان زوجها يأتيها بها، فلم تكن يوماً بحاجة للتبضّع. تستذكر أخرى حليها الذهبية التي امتلأت بها ذراعاها يوماً، وعدم حاجتها للعمل، فبعد أن بيع كل شيء يمكن بيعه مقابل الحصول على الغذاء أيام الحصار، تضطر اليوم للعمل خارجاً وزوجها في المنزل خوفاً من الأمن وطلب الاحتياط وكل ما يمكن أن يحصل لصدفة شريرة.

تحولات!

 "أكثر الرجال راحت"، ومن الأفضل أن يبقى ما تبقى منهم آمنين في المنازل.
غيّر هذا اعتبارات جندرية كانت سائدة، لم تعد المرأة تنتمي إلى البيت صباحاً فهي غالباً في العمل، لكنها لا تلبث أن تعود إلى حيّزها الخاص مع هبوط الليل وانتفاء الحاجة إلى حركتها وتنقّلها، فترجع إلى تقاليد المنطقة التي تفضلها في المنزل ما أتيح لها.

يحكي حامد، أربعون عاماً، كيف تعقد زوجته الصداقات مع العناصر والضباط على الحاجز لتسهيل مهمتها "أحد العناصر يقوم بحمل أغراضها أمتار قليلة فقط ليمسك يدها". يتندّر ضاحكاً، فيما يؤكد أنّ العناصر يعتقدون أنها غير متزوجة، فيما تحاول نساء أخريات يعملن في التجارة أن ينلن منها بفضح حالتها الاجتماعية عند الحاجز، فالمنافسة على سهولة وسرعة العبور، والمسألة تبلغ أهمية البقاء بالنسبة لهن.

بائع تمر هندي ضمن حي القابون. المصدر: خاص حكاية ما انحكت
بائع تمر هندي ضمن حي القابون. المصدر: خاص حكاية ما انحكت

حامد وزوجته من أهالي الغوطة، ككثيرين فرّوا من حصارها المحكم الذي لا تيسّره شبه هدنة كالتي في القابون، هو لا يستطيع دخول دمشق خوفاً من خدمة احتياط يعتقد أنه مطالب بها، فعلق وزوجته كمعظم ساكني المنطقة في هذا المكان هجين الصفات: تجمّع كبير للفارين من مناطق نظام ومعارضة معاً. يشبهه "نور" أحد أهالي القابون القدماء بالليمبو، مكان بعد الموت، حيث لا جنة ولا جحيم بل أناس يهومون على وجوههم منتظرين. فلا هو في حرب كتلك التي عرفوا في مناطقهم السابقة، ولا هو في سلم حقيقي، لا هو محاصر بحيث تتكفل الجمعيات والمنظمات بمساعدة السكان ما استطاعوا ولا هو يتيح للأفراد البحث عن طرق عيشهم أفراداً، هو فقط خارج سلطة النظام وآمن من معتقلاته، وربما تدنو أسعار الإيجارات فيه عن المدينة بشكل يدفع الكثير من المهجرين إلى قصده والسكن فيه رغم شرطه الحياتي المضني.

يمرّ... لا يمرّ

الولاعات، البطاريات، المصابيح اليدوية وكل ما يمتّ للكهربائيات بصلة ممنوع، كذلك الملح وحامض الليمون اللذان قد يستخدمان في تصنيع المتفجرات. عبوات الغاز وحليب وحفاضات الأطفال تمرّ بإشارة على دفتر العائلة بتاريخ يوم المرور لمنع الإتجار. لكن كلّ هذا قد يغفل بمبلغ يرضي العنصر على الحاجز، "يضربوننا ويطردوننا عندما يكون الضابط موجوداً"، يقول سليم تاجر السكر ذو الثلاثة عشر عاماً، يحكي كيف تتناسب اختياراته التجارية طرداً مع مقدار ما يستطيع دفعه، فكيلو السكر يربح مئة ليرة أي أقل من عشرين سنتاً، وهو يستطيع أن يحمل ثمانية كيلوات يعطي مقابلها لعنصر التفتيش علبة سجائر يجب أن تساوي ثلاثمائة ليرة على الأقل ليسمح له بالعبور، هو يفتش على الحاجز كتاجر، ويمشي حوالي الكيلومتر كي يربح في نهاية اليوم أقل من خمسمئة ليرة سورية، أي دولاراً واحدا لا غير. ضربه مرة نفس العنصر الذي يرضى برشوة الدخان لأنّ ضابط الحاجز كان موجوداً. انتظر سليم قليلاً لمعرفته أنّ المرور ممكن عندما يبتعد الضابط قليلاً، ولثقته أنّ كلّ ما يجري استعراض لقانون مجحف لا أكثر.

 كثيراً ما يتعرّض الأطفال للعنف من قبل العسكريين، فيستسهلون ضربهم ورمي أغراضهم. أثناء العام الدراسي يخفي كثير من الأطفال خبزاً أو سكراً في حقائبهم، لكن العناصر لهم بالمرصاد. مزّق أحد العناصر حقيبة راما ذات التسع سنوات مرتين ورمى أغراضها لتخسر رأسمالها البسيط وكل ما كانت تحلم بربحه مع ما تتركه لاستهلاك عائلتها. في كلّ مرّة كانت تصرخ وتبكي وتحاول استرجاع أغراضها فيمرّ الأطفال الآخرون مسرعين بانتهاز أيّ فرصة. ليلحقهم عناصر آخرون ويوسعونهم ضرباً، لا تنتظر من أحد مساندتها أو حتى انتظارها، "كل عليه من نفسه" هي الحكمة التي تعلّمتها منذ بدأت العمل.

تشارك الفقراء

بعض الأطفال قد يتشاركون تجارتهم أحياناً ويتقاسمون الربح والخسارة، منهم صغار التجار والأكثر خبرة، وبعضهم يعمل لدى بعض، ومنهم من (حرق كرته) عند الحاجز لمشاجرة قام بها، ففضل البقاء وشراء البضائع التي يأتي بها الأطفال التجار بربح بسيط يزيده قليلاً ثم يبيعها بنفسه.

تتباين مكاسب الأطفال/التجار بين بضاعة وأخرى، فمعظمهم يأتون بالخبز لإلحاح الحاجة اليومية إليه، ويغدو سعر الكيلو الذي كان عند الفرن خمسين ليرة، مائة وخمسين للمستهلك المضطر.

عبارة يكتبها جنود الأسد على مداخل المناطق المحاصرة. المصدر: مواقع التواصل
عبارة يكتبها جنود الأسد على مداخل المناطق المحاصرة. المصدر: مواقع التواصل

 بضائع كالحمص مرتفعة الربح أمام غيرها، حوالي 300 ليرة للكيلو الواحد، وكلّ الممنوعات تربح كثيراً، بعض الأدوية تباع بضعف السعر مثلاً.  معظم الأطفال والنساء يقومون بعدّة رحلات في اليوم الواحد لإدخال كميات تفي بحد أدنى للربح الذي يستعينون به على حياة صعبة مكلفة.

كثيراً ما تقع مشكلات تخص ضياع الرأسمال، فمعظم المتاجرين يقترضون مبالغ بسيطة يعيدونها لأصحابها نهاية اليوم، لكن سياسات الحاجز المتغيّرة قد تقضي على المبلغ المستدان، دون قدرة الطفل أو المرأة على السداد وهم يعيشون على أخفض هامش ممكن للفقر أساساً. والحل لمعضلة الحياة بالنسبة لجميع السكان هو الحلم بالسفر خارج البلاد، تدغدغه صوّر أقرباء وأصدقاء لهم في لجوئهم، حيث لا معارك قاسية للحصول على أبسط الحاجات كلّ يوم، وحيث يمكن للمرء أن يربي أطفاله فيحكي لهم عن الأخلاق بعيداً عن نزعات الأنانية، الرشوة واستغلال الفساد المفروضة عنوة بيد الجوع والحاجة.

(الصورة الرئيسية: لوحة للفنان فارس (اسم مستعار). المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك، وتم التأكد من خلال تواصل حكاية ما انحكت مع الفنان)

هذا المصنف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي. نسب المصنف : غير تجاري - الترخيص بالمثل 4.0 دولي

تصميم اللوغو : ديما نشاوي
التصميم الرقمي للوغو: هشام أسعد