من الواضح أنّ "الخيار" العسكري للثورة السورية انتهى إلى كارثة سورية مستدامة، ليس الكلام أمامها عن الطبيعة الدموية للثورات وأطوارها وطول أمدها والقياس على الثورة الفرنسية أو غيرها سوى تعليل للنفس وخشية من التحديق في عين الكارثة. ومن الواضح بالمقابل أنّ الحفاظ على سلمية الثورة أمام نظام مهووس بالبقاء ويدخل المعركة ضد التغيير السياسي بوصفها معركة حياة أو موت، مسلّحاً بالمجازر وبجيش احتياطي من الشبيحة "المستقلين" عن الدولة الرسمية، وبكلّ صنوف التعمية والتلاعب والإجرام، هو ضرب من المستحيل. هذا يقول إنّ الجدال الحدّي وحرب اليقينيات التي استمرّت على ضفّة الثورة، بين المدافعين عن العسكرة من جهة، والباكين على السلمية من جهة أخرى، كان نشاطاً قليل المعنى.
المدافعون عن العسكرة ينطلقون من حقيقة أنّ النظام الأسدي لا يسقط إلا بالقوة، وهذا كلام صحيح ويمكن الدفاع عنه بحجج لا تنتهي. والمدافعون عن السلمية ينطلقون من أنّ العسكرة قادت إلى تعزيز التدخل الخارجي والارتهان للدول الداعمة وإلى المزيد من الأسلمة وصولاً إلى "القاعدة" وإلى الكارثة، وهذا أيضاً صحيح وأثبته الواقع السوري بوضوح عملي لم يكن من الصعب توّقعه. هاتان مقدّمتان صحيحتان، ولكن لا يمكن الخروج بتركيب لهما، فيبدو أنّ المسعى التغييري الجدّي للنظام السياسي في سوريا يقع دائماً على منزلق كارثي.
في إمكانية الثورة السلمية في سوريا
لا شك أنّ عسكرة الانتفاضة السورية قادت إلى كارثة صريحة، ولكن ليس أقل يقيناً من ذلك أنّ السلمية كانت خياراً يقترب من المستحيل، حتى لو توّفر لك شعب جاهز للموت في المظاهرات السلمية والاعتصامات إلى أن "يسقط النظام" (بقية أشكال النضال السلمي كالإضرابات والعصيان المدني لم تثبت فاعلية)، فإنّك لن تضمن بأيّ حال نشوء ظاهرة مسلّحة وذات شعبية، ترد على العنف الإجرامي والاستفزازي للنظام، الأمر الذي سوف يقود، بمساهمة الأطراف ذات المصلحة، بمن فيها النظام، إلى العسكرة.
الحفاظ على الخيار السلمي بوصفه الجهد الأساسي في قسر نظام سياسي من نمط النظام الأسدي على تغيير جدي يطال طبيعته الطغموية، مهمة شديدة الصعوبة، ليس فقط بسبب غياب الشخصية أو القيادة الوطنية الجامعة أو الفاعلة التي يمكن أن تضبط منحنى تطور حركة التغيير وتلجم نزوعاتها العنفية، ولاسيما أنّنا في إطار ثقافة إسلامية مشبعة بفكرة القصاص والقوة وجاهزة دائماً لتوّلي الجهاد ضد المعتدي، بل وأيضاً بسبب انعدام الرادع السياسي والأخلاقي لدى النظام الأسدي في البطش بالسلميين وسحقهم بشتى السبل وصولاً إلى القتل الجماعي إذا اقتضى الأمر، واستعداد العالم لتمرير ذلك باعتباره شأناً داخلياً مع بعض التأسف والقلق وربما بعض العقوبات ..الخ.
ولو افترضنا، جدلاً، ديمومة السلمية في الثورة السورية، فإنّ نجاحها في كسر هذا النمط من الأنظمة كان سيتوقف على أحد تطورين: الأوّل هو رد الفعل العالمي، والغالب أنّ رد الفعل العالمي المجدي في إسقاط هذا النمط من الأنظمة هو شكل ما من التدخل العسكري الخارجي. إن حصل هذا التطور فإنّه سوف يفتح الموضوع السوري، بطبيعة الحال، على عوامل خارجية أشدّ قوة وفاعلية من العوامل الداخلية التي كانت الأساس في اندلاع الثورة. أي أنّ القوى الخارجية المسيطرة (أميريكا بالدرجة الأولى) سوف تتدخل ليس لنصرة "ثورة"، بل للتعامل مع مشكلة دولة فشلت في ضبط شؤونها الداخلية وباتت عبئاً على النظام العالمي، فيكون هدف التدخل فرض وصاية عسكرية كما حصل في أفغانستان والعراق، ما يترك موضوع الشرعية السياسية وشرعية الحكم دون حل.
والتطور الثاني الذي يمكن أن ينجم عن الديمومة المفترضة للسلمية، هو رد فعل الجيش السوري الذي قد يتصدّع ويتحرّك جزء منه ضد التعامل الدموي مع الحراك السلمي، ما سوف يدفعه للاصطدام مع الجزء من الجيش الذي سوف يبقى داعماً للنظام نظراً لوجود قطاعات أساسية من الجيش لن تتخلّى عن النظام لأنّها بنيت أساساً على الولاء للنظام وليس للبلاد. بهذا نكون أقرب إلى السيناريو اليمني الذي انتهى إلى صراع مسلّح رغم الحفاظ على سلمية الثورة هناك. هذا النوع من التطوّر العسكري مفتوح هو الآخر على نهايات كارثية شبيهة بما نحن عليه اليوم.
هكذا تبدو العسكرة بمثابة قدر على أي حراك شعبي ينهض لتغيير النظام الأسدي. والأهم أنّ هذه النهايات تبتعد جميعها عن معالجة الموضوع الأساسي في الثورة وهو شرعية الحكم وآليات تداوله سلمياً.
هل يمكن أن تكون العسكرة غير إسلامية؟
كلّ خطوة على طريق العسكرة والسلاح في الثورة السورية، كانت خطوة على طريق التحوّل الإسلامي الجهادي، وكانت خطوتين بعيداً عن أمل السوريين في نظام حكم ديموقراطي.
لم تكن حرّية الاختيار بين السلمية والعسكرة، بعد كل شيء، متاحة للسوريين المحصورين بين نظام مصمّم على سحق حركتهم، وداعمين ساعين إلى تسليح الجهات الأكثر جاهزية لحمل السلاح. كان التوّجه إلى العسكرة والسلاح مساراً يصعب الحياد عنه. ومن بين أشكال العسكرة الممكنة، تحقّق في سورية الشكل الأكثر دموية ومأساوية، أقصد العسكرة الشعبية، وذلك قياساً على الشكلين الافتراضيين الآخرين وهما التدخل الخارجي ضد دموية النظام في قمعه لحراك سلمي، أو انشقاق مهم في الجيش لصالح هذا الحراك السلمي، ذلك أنّه في كلا هذين الشكلين كانت ستحدث المواجهة بين وحدات عسكرية في الأصل وقادرة على الاستيعاب الشعبي بهيكل ومنهجية عسكرية مكرّسة.
حملت العسكرة الشعبية بذاتها مشكلتين، الأولى تنبع من كونها تعني البدء بالمسعى العسكري من الصفر، مع ما يتضمن ذلك من فوضى السلاح ومن وصول فئات محدودة الوعي، بمن فيهم أصحاب جنايات وزعران، إلى مواقع قيادية في العمل العسكري ثم في قضايا الشأن العام، ومن تعدّد فصائلي هائل كان ميدان صراع دموي بيني، فضلاً عن استحالة تجنب الوقوع في أسر الدعم الخارجي وشروطه. والمشكلة الثانية تنبع من كون العسكرة مدخلاً مناسباً للإسلاميين، سواء من حيث توّفر خبرات عسكرية "إسلامية" جرى استيرادها من العراق وافغانستان، أو من حيث ملاءمة الايديولوجيا الاسلامية لاستيعاب هذا المجهود العسكري بوصفه جهاداً ضد نظام علماني (يتحول سريعاً إلى نظام علوي)، مع الاستفادة الأكيدة من أرضية إسلامية شعبية جرت كهربتها بمسريين: بطش النظام اللامحدود وسلوكه الطائفي المدروس من جهة، يقابله من الجهة الأخرى جهادية إسلامية عالية الجهوزية، قدّمت الفكر القتالي الطائفي والجرأة القتالية الآسرة. وتكتمل الصورة إذا أضفنا إليها، استعداداً، أو قل عملاً مسبقاً، من الدول الإسلامية لدعم الإسلاميين دون غيرهم.
السعي السلمي إلى تغيير النظام الأسدي فتح الباب إلى العسكرة التي فتحت الباب بدورها إلى سيطرة النسخ الجهادية من الإسلاميين الذين حازوا على مقبولية شعبية لا بأس بها بسبب وقوفهم في وجه قوات النظام. وإذا كان من المفهوم أن هذه الجهاديات حازت على قبول شعبي جراء وقوفها في وجه النظام الأسدي، وأن كسر حلقة هذا النظام هو البداية الضرورية للسعي التحرّري منها، فمن الصحيح أيضاً أنّ البذرة الجهادية تمكنت في سورية إلى حد سوف يُثقل كثيراً على العهد ما بعد الأسدي وسوف يهدر الكثير من الطاقات الكامنة وتشل ليس فقط البناء الديموقراطي بل والتنموي أيضاً وإلى أمد طويل.
كل هذا فيما القوى "الوطنية الديموقراطية" في سورية تترك مواقعها لتنشغل في اختيار "أهون الشرين".
(الصورة الرئيسية: كرتونة من دير الزور)