حاولنا جرّه إلى مربع الاستفزاز بغية أن نأخذ أفضل ما لديه، فكان أكبر من استفزازنا، وكانت إجاباته تحمل تفاؤل العقل والإرادة معاً، مضافا لها خبرة "مثقف" عجزت السجون المتعدّدة التي تنقّل بها عن ترويضه، كما عجز المنفى عن إبعاده عن سورياه التي لازال يحلم بأن يتأبط ترابها يوماً ما.
إنه الشاعر السوري فرج بيرقدار، الذي حمل جمر الحرية بقبضتيه حين كان للكلام ثمن باهظ في زمن الصمت، وحمل الشعر بين أجنحة روحه ليقاوم السجان وأدواته، فجابت قصيدته العالم، لتثبت أنّ المقاوم يبدع أشكال مقاومته حتى وهو داخل السجن.
عن تجربة الماضي، وعن نشاطاته وفاعليته التي تصب كلها في خدمة الثورة، كان هذا الحوار الذي أجاب على أسئلته وهو ينتقل بين منصة ومنصة، ندوة وبلد، ليقول أن ثورة السوريين "ما زالت قائمة" في وجه عالم أصم وفاقد للضمير.
أجرى الحوار: محمد ديبو
(1): عزيزي فرج، أعرفك لا تحب الاستفزاز، ومع ذلك دعنا نبدأ منه. دافعتَ كثيراً عن كون الثورة ما زالت ثورة، فهل ما زلت تعدها كذلك؟، وإن كان الجواب "نعم"؛ فأين الثورة في ما يجري اليوم على الأرض السورية؟.
لست ضد الاستفزاز عندما يستهدف فكرة أو طرحاً أو موقفاً، فإذا تشخصن الاستفزاز أو ترخَّص أو تسافه، وقفتُ ضده حتى لو كان فيه جانب من الحقيقة، ولهذا أنا مع "استفزازك" لي كما أسميته أنت. أمّا أنا فأسميه حكّاً للذهن واستثارة أو تحريضاً لأقصى ما يمكن من مكامن وجهات النظر.
دعني أميّز أولاً بين الثورة كدلالة لفظية مباشرة مشتقة في اللغة العربية من فعل "ثار" وبينها كمفهوم ومصطلح اتفق الفكر العالمي على مضامينه المتعلّقة بالتغيير الجذري للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم. الثورة السورية كما أراها حتى اليوم، هي تلك المشتقة من فعل "ثار"، وقد أتجرَّأ اصطلاحياً فأسميها "ثورة سياسية"، أي إنّها تستهدف حصراً تغيير النظام السياسي المتمثل بحكم الأسد. ولأنّ للثورات صيروراتها طويلة الأمد غالباً، فقد تصل الثورة السورية إلى تحقّقها الشامل مستقبلاً، وهذا أمل أو حلم، ومن جهة ثانية ينبغي عليّ أن لا أستبعد فرضية أن لا تحقِّق الثورة حتى تغيير نظام الحكم، وفي هذه الحال ستسميها كتب التاريخ "انتفاضة" أو شيئاً من هذا القبيل. وأنا بالطبع لا أتمنى ذلك ولا أقف على الحياد ولا أدّخر جهداً في الوقوف إلى جانب شعبنا الثائر لتحقيق تغيير النظام السياسي كمرحلة أولى أو في الحد الأدنى.
أمّا أين الثورة في ما يجري الآن، فأقول: إنّها أولاً في ما غيّرته في المزاج الشعبي العام، وما كسرته من حواجز، وما خلخلته من قواعد وقناعات وقوانين وقِيَم. إنّ استمرار غالبية الشعب السوري برفض حكم الأسد طوال خمس سنوات وعلى وشك السادسة، رغم كلّ ما تعرّض ويتعرّض له من قتل وقصف وحصار وتهجير، لهو مؤشر لا يقبل طمساً على أنّ الثورة لم تتوّقف ولم تنتهِ. ازدراء حقبة "إلى الأبد" مؤشر، عودة التظاهرات في كلّ مكان يشهد حدّاً من الأمان مؤشر، فقدان سيادة النظام واضطراره للاستعانة بإيران وروسيا وحزب الله وشتى أنواع الميليشيات من العراق وأفغانستان وإيران وباكستان مؤشر، خروج أجزاء كبيرة من سوريا عن سيطرة النظام مؤشر.
أنا هنا أتحدّث عن أنّ الثورة السياسية التي تستهدف تغيير النظام ما زالت قائمة، وإن كنت أدرك مخاطر واحتمالات أن يكون النظام السياسي القادم لا يقلّ سوءاً عن نظام الأسد، وما يقتضيه ذلك من صراعات لا أظنّها ستتوقف ما لم تحقّق الثورة أهدافها الأولى التي هتف بها المتظاهرون في معظم أنحاء سوريا. الشعب الذي ثار أخيراً على نظام الأسد رغم عقود من القمع والاضطهاد والترويع وأجهزة المخابرات المسيطرة على كلّ مؤسسات الحكم العسكرية والمدنية، هذا الشعب لن يستسلم لنظام آخر يصادر حقوقه وأهدافه التي ثار من أجلها، لا سيما أنّ أيّ نظام جديد لا بدّ أن يكون بالضرورة أضعف من نظام الأسد الذي لم يستطع الحيلولة دون الثورة.
(2): تبدو الثورة اليوم واقعة بين فكّي استبدادات كثيرة: الاستبداد الأسدي المعروف، استبدادات صغرى نشأت داخل الثورة، استبداد الدول الإقليمية، واقع دولي متوحش ومستبد عالمياً، حين أنظر لما جرى للثورة أشعر أنّه –موضوعياً-كان يصعب حتى على الأنبياء أن يقاوموا كل هذه الاستبدادات، وهو ما أوصلها إلى ما ترقد فيه اليوم من واقع لا يسرُّ. ولكن مع ذلك يبدو لي أنّنا ارتكبنا الكثير من الأخطاء التي جعلت تمكن هؤلاء من ثورتنا ممكناً، مما عرقلها وجعلها تبدو "أزمة" أحياناً و"حرباً أهلية" أحياناً و"حرباً على الإرهاب" أحياناً أخرى، كيف تقرأ الأمر؟ هل توافق؟، أم أنّ ثمّة جلداً للذات في الموضوع؟، خصوصاً أنك لا تحب جلد الذات.
من سوء حظ الشعب السوري أنّ الأطراف المتضرّرة من ثورته عديدة، بدءاً من الدول "الشقيقة" مروراً بإيران وإسرائيل وروسيا وأمريكا،... إلخ.
كان واضحاً منذ بداية الثورة أنّ القوى المعتدلة والثورية والعلمانية محرومة من الدعم الحقيقي أو الجادّ سياسياً وإعلامياً ومادياً، وفي ما بعد عسكرياً. الصف الأوّل والثاني وربّما الثالث من الشباب الذين قادوا الحراك في الشوارع والتنسيقيات تعرّضوا للقتل أو الاعتقال أو التخفّي أو الهجرة. ومن الجور أن نطالب هؤلاء بالصمود والاستمرار بدورهم مع عدم وجود من يقدّم لهم الدعم أو الحماية. في حين طرأت على الساحة فصائل سلفية ومتطرفة وإرهابية استطاعت خلال شهور قليلة من تأسيسها أن تغدو قوى ضاربة وتمتلك الأسلحة والأموال والآليات والأغذية، ما جعلها تحكم سيطرتها على كثير من المناطق، وما جعل الكثير من الناس بحاجة إلى دعمها، ولا سيما في ظلّ تنصّل النظام من المهام التي كان يقوم بها، وإن بشكل فظٍّ ومهين للكرامة، هذا إذا لم نتحدث عن قيام النظام بدوره معكوساً عبر حرمان الناس من أوليات وأساسيات العيش، ناهيك عن القصف والتدمير بوحشية يندر أن بلغها طاغية عبر التاريخ. قصة الشعب السوري وثورته هي "قصة موت معلن"، يعرفها ويراها ويتابعها العالم كله وما من مغيث. ولكن ما يثير الاستغراب ليس هذا بل قدرة الشعب السوري على الاستمرار في مواجهة نظام الأسد ومعه أعتى القوى الإقليمية والعالمية.
إنّ أيّ ثورة في وضع أقل تعقيداً من الوضع السوري، وضد نظام أقل طغياناً ووحشية من نظام الأسد، يمكن أن تمر بأطوار مدٍّ وجزر وأزمات تختلط فيها ملامح الثورة أو تتجلّى بشكل حرب أهلية أو أشكال أخرى من الصراع.
لا يوجد في التاريخ ثورة "كريستال"صافية. على أنّ ذلك لا يعني تبرئة الثورة وقواها، سياسياً وعسكرياً، من السلبيات التي لو جرى تداركها لكانت الأمور أفضل، أو أقلّ سوءاً، أو بخسائرَ أقلّ. المعارضة السورية خسرت أو أبعدت وأحياناً فُرِض عليها أن تُبعِد أهم الكفاءات السياسية والثقافية والإعلامية والعلمية والعسكرية.
فصائل الجيش الحر مهمَّشة ومحرومة من أيّ دعم، إلا عندما يُراد لها أن تقوم بمهمة أو بدور يصعب على غيرها أن يقوم به. وعلى الرغم من مرور قرابة ست سنوات على اندلاع الثورة فليس للمعارضة مؤسسة إعلامية قادرة على التأثير داخلياً وخارجياً، كما ليس لديها ولو قناة فضائية تنقل حقيقة ما يجري بعدد من اللغات التي يمكن أن تغيّر في المزاج أو الرأي العام العالمي. هذا إضافة إلى ما نقله إليها النظام من عدوى بعض أمراضه، من محسوبيات وفساد وضعف استقلالية القرار، وأحياناً انعدامها.
مع كل ذلك فأنا لست مع جلد الذات، إذ لو تجنبت الثورة السورية وقواها على تنوّعها أي تقصير ذاتي لما كانت النتيجة انتصاراً مضموناً أو سريعاً في ظل الوضع الإقليمي والعالمي الذي نرى مدى نذالته الأخلاقية. أعرف أنّ مصالح الدول لا تُبنى على الأخلاق، ولكن ليس بالضرورة أن تبنى حصراً على انعدام أو سوء الأخلاق. في كثير من الحالات استطاعت الدول تحقيق مصالحها وبأقل ما يمكن من التنازل عن الأخلاق.
(3): استفزاز ثانٍ: كنت واحداً من أهم مناضلي حزب العمل الشيوعي، وكنت قيادياً فيه، وسجنت عدداً كبيراً من السنوات، على قيوده، وأنت اليوم بعيد عن الحزب بالمعنى التنظيمي. ما الذي يعنيه لك على الصعيد الشخصي؟ وهل أنت نادم لأنك اعتزلت العمل السياسي قبل الثورة؟، خاصة أنّ نقطة ضعف الثورة الواضحة هي التمثيل السياسي لها، فهل هرب فرج من دور كان عليه أن يلعبه متجهاً لأن يأخذ دور المثقف البعيد، أم ماذا؟.
ليته كان سؤالاً استفزازياً يا صديقي. هذا سؤال ذو كمائن وتوريطات رغم جزمي بحسن نيتها.
من جهتي لا أعتبر نفسي "من أهم مناضلي حزب العمل"، ولا مناضلاً حتى، فقد قمت بما أملاه عليَّ ضميري وواجبي تجاه شعبنا، ودفعت الضريبة مثل عشرات آلاف المعتقلين السياسيين من الحزب وغيره. قد أكون من أشهر، وليس من أهم معتقلي حزب العمل، والأسباب في ذلك تعود إلى الاهتمام العالمي بي كشاعر.
أمّا أنّي كنت قيادياً فيه فليس لدي ما يدفعني إلى إنكار الأمر أو تبرّئي منه. فبعد حملة الاعتقالات الواسعة عام 1982 التي طالت عدداً كبيراً من كوادر الحزب اضطررتُ على الموافقة في أن أكون في قيادة الحزب. للأمانة؛ في البداية لم أوافق، وأبلغت القيادة أنّي لا أمتلك المقومات التي تؤهلني للمهمة، غير أنّ نقاشات كثيرة، كان آخرها مع الصديق أصلان عبد الكريم، جعلتني أوافق على أن أكون في قيادة منطقة دمشق وفي اللجنة المركزية، وبعد عام وبضعة شهور اعتُقل أصلان فانتخبتني اللجنة المركزية لعضوية المكتب السياسي. كان قراري واضحاً، سأقوم بواجبي إلى أن أُعتقَل، فأعود إلى ديدني كشاعر وصحفي، وذلك ما حدث.
أنا لا أرى في نفسي شخصاً حزبياً أو سياسياً محترفاً. أنا سياسيّ بقدر ما يقتضيه مني موقعي كشاعر وصحفي لا أكثر. لذلك فأنا غير نادم على ابتعادي عن العمل الحزبي أو السياسي المباشر منذ إطلاق سراحي، ولا أعتقد أنّه كان يمكن لي أن أقوم بأكثر من ما أقوم به الآن لو لم أعتزل العمل السياسي المباشر أو الحزبي.
حزب العمل اليوم أو بعد الثورة مثل غيره من أحزاب اليسار التي لم تستطع تجديد نفسها بما يكفي، فكراً وسياسة واستقطابات تنظيمية، رغم بعض الفوارق الجزئية بين أحزاب اليسار، ولا سيما حزب الشعب الذي كان الأكثر دينامية في محاولة تجاوز نفسه، إلا أنّ الجميع للأسف لم يستطيعوا مواكبة مقتضيات الثورة ومستجداتها، ولا أرى في الأمر تقصيراً نضالياً أو وجدانياً بقدر ما هو ضعف قدرة ولياقة على التحديات الجديدة المطروحة. لا أشك في أنّ مستقبل سوريا بحاجة إلى أحزاب من طرازات مختلفة في برامجها وآليات عملها ودمائها الشبابية الجديدة.
خرجت من السجن في أواخر سنة 2000، ولم أغادر سوريا نهائياً إلا في عام 2005، ولم يكن ذلك هروباً، فقد دعيت إلى ستوكهولم ككاتب ضيف لمدة سنتين، وبعد توقيعي على إعلان بيروت دمشق- دمشق بيروت وما حدث بعد ذلك، إضافة إلى بعض الأمور الشخصية على الصعيد الاجتماعي، قرّرت البقاء في السويد. الآن أتساءل: لو أنّي كنت في سوريا عند اندلاع الثورة فما الذي كان يمكنني فعله سوى أن أعلن موقفي ضد النظام ومع الثورة، وبالتالي أن تعتقلني السلطات؟، والاعتقال هو أقصى ما أتقنه أو أستطيعه في سوريا.
في السويد أرى أنّي أستطيع فعل الكثير مما لا يمكن لي فعله لو كنت في سوريا، ومن يتابع ما يتاح لي أن أقوم به في أوروبا عبر الإعلام والمهرجانات والمحاضرات لصالح الثورة السورية لا بدّ أن يدرك الفارق بين الهروب وبين إمكانية الفعل، وإن كانت محدودة وعلى الصعيد الشخصي.
(4): كيف تنظر لموقف الحزب مما يجري اليوم على الصعيد العام، خاصة أنّ اتهامات كثيرة ومتناقضة وجهت للحزب؟
في السنوات الأخيرة من اعتقالنا صار واضحاً لي أنّ حزب العمل تجزأ إلى ثلاثة اتجاهات أو تيارات على الأقل. اتجاه على حاله أو على رسله، لا تغيّره الظروف ولا يمتلك إرادة تغيير نفسه، واتجاه يفكر في التجديد على كلّ الصعد فكرياً وسياسياً وتنظيمياً وينتظر الإفراج وقراءة الواقع الجديد، واتجاه يميل إلى الليبرالية والديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والمجتمع المدني. فاتح جاموس كان من الاتجاه الأول. لا أحسد فاتح على صبره ودأبه في سنوات سجنه الطويلة وبعدها، كما لا أحسده على الموقع الذي وجد نفسه فيه بعد الثورة. لم يستطع الرجل تغيير شيء في تصوراته وأولوياته السياسية لا قبل السجن ولا خلاله ولا بعده، وقد زارني بعد مجيئي إلى ستوكهولم بشهور، وسعدتُ بإقامته عندي كصديق تجربة وسجن، غير أنّنا لم نتفق على معظم ما كان يفكّر فيه، وقد آلمني اعتقاله بعد عودته من عندي في ستوكهولم إلى دمشق. بعد الثورة وصلت طروحات فاتح إلى نهاياتها التي تصبّ في طاحونة النظام وعى ذلك أم لم يعِ. كم كنت أتمنى أن تليق خاتمته بمدى تضحياته خلال حياته.
أمّا تاريخ حزب العمل بعجره وبجره فأراه من أفضل ما سجّله حزب معارض في مواجهة ديكتاتورية الأسد الأب، ولكنَّ فضلاً سابقاً أو قديماً لا يستجرّ تلقائياً فضلاً راهناً أو مستقبلياً. لا أنكر أنّ هناك شرفاء ومناضلين حقيقيين ما زالوا مع فاتح، ولكن ذلك لا يغطّي على ما وصل إليه فاتح من انحطاط سياسي بعد الثورة.
نعم أنا كنت من حزب العمل الشيوعي، ولكني لم أكن من قبيلته، ولهذا لا أرى مشكلة بيني وبين أيّ حزب سياسي سوري ما زال يحاول أن يكون جزءاً من شعبه، ولا تُضِلُّه دعاوى الوطنية والقومية العربية والتجارة بفلسطين. الواقعات مركِعات.
(5): أنت الآن مثقف أكثر منك سياسي، وأنت من المثقفين السوريين القلائل الذين ربما رفعت مقاطع من قصائدهم (طائر واحد يكفي … لكيلا تسقط السماء/ رفعت في حلب) أو كلماتهم في المظاهرات بما يشير بطريقة ما إلى دور المثقف ومساهمته في الثورة، ولكن مع ذلك، وإذا وسعنا الدائرة، تبدو الثقافة السورية وكأنّها تلهث لقراءة الواقع، إذ يبدو واضحاً أنّ فاعلية المثقفين السوريين هي الأقل على صعيد فهم ما يجري أو على صعيد الفاعلية على الأرض، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن فاعلية الثقافة في زمن الثورة، وكيف تقيّم دور المثقف؟ وأين أخفقت الثقافة؟ وكيف يمكن لها أن تسهم في معركة العبور نحو الحرية؟.
أنت ذكرت واقعة، وهناك وقائع كثيرة غيرها. حين كتبتُ ما كتبتُ لم يخطر في ذهني أن أرى بعض ما كتبت مرفوعاً على لافتات في تظاهرات سورية. أنا كنت أحاول أن أكون فرداً منتمياً إلى شعبنا لا أكثر، وكان رفع بعض أقوالي في التظاهرات أكبر من الدور الذي كنت أحلم به. أنا أرى الثقافة بمثابة خندق أخير للمقاومة، فإن صارت في الخندق الأول أو الثاني أو الثالث فلا بأس. تأسيس الثقافة ودورها يحتاجان إلى زمن وتراكم وطول نفس، وقد أكون من المحظوظين الذين رأوا بعض نتيجة دورهم خلال زمن قصير. الثقافة تحتضن بكلّ معاني الاحتضان، تحتضن خميرة المجتمعات تراثاً وحاضراً ومستقبلاً، ولذا ليس من شأنها أن تكون في الخط الأول للجبهات.
حين يكون المجتمع بحاجة للفلاح والعامل والمعلم والميكانيكي والنجار والحدّاد والكهربجي ومبرمج الكومبيوتر والطيَّار وكابتن السفينة وسائق الباص وغير ذلك، فلا بد أنه يحتاج إلى المثقف. ورغم كلّ الإشكاليات والاختلاطات أرى أنّ الثقافة أو المثقفين السوريين يقومون بدورهم راهناً، وأعرف أنّ دورهم مستقبلاً أكبر وأكثر تعقيداً. دور الثقافة تاريخياً هو دور بعيد المدى والترجيع، ولا يغيّر في هذا الأمر حديث غرامشي عن دور المثقف العضوي.
على المستوى الواقعي أو المباشر، لو تقابَل مقاتل ومثقف في موقف مصيري فالأرجح أنّ المقاتل سيتفوَّق على المثقف. ولا فضل للمثقف في أنّه يمكن أن يرى الأمور أو نتائجها قبل وقوعها. المثقّف ينبغي أن يكون رمحاً قويم الأفكار والتحليلات والمشاعر، وكلّما اجتهدتْ مقاربته أو مبادرته أكثر كان خيراً، غير أنّ ذلك ينبغي أن لا يجعلنا نحمِّل الثقافة والمثقفين ما هو خارج أو أعلى من طاقتهم، فإن أخلَّ مثقف في موقفه من الحرية والكرامة والعدالة بمعانيها العامة والمنطقية والإنسانية، فلا بد من إدانته.
أنا أعتقد أنّ أغلب المثقفين السوريين انحازوا إلى الثورة. دعني أضرب لك مثلاً بسيطاً: في عام 2012 تأسّست رابطة الكتّاب السوريين، تضم الرابطة أكثر من 300 عضواً هم في الواقع أهم الكتّاب السوريين، صحيح أنّ الرابطة تعاني من نقص فادح في الدعم لأنّها ترفض أيّ دعم مشروط، ولكنها على الأقل جرّدت النظام من المتاجرة باسم أكثر من 300 كاتب سوري. الإبداع لا يقبل بأقل من الجمال، السياسة تحاول التجميل، والتسييس انحطاط السياسة.
(6): بما أننا نتحدث عن فاعلية المثقف، على خلاف كثيرين من أصدقائك وشركاء سجنك ونضالك، لم تتجه نحو الكتابة السياسية واكتفيت بالشعر والأدب، وفيما يخص ما يحصل في سورية، اكتفيت بما تكتبه على الفيسبوك من آراء سريعة توضح موقفك مما يحصل، لنكون أمام سؤال: أين تكمن فاعلية فرج بيرقدار ثورياً إن صح التعبير؟ أين يعبّر عن واجبه تجاه ما يحصل في سورية؟ أين تصرّف طاقتك وألمك أيضاً؟.
أعرف أنك تتابع نشاطاتي، وأنك تطرح السؤال لتصل الإجابة إلى من لا يتابعون. أنا لا أتابع الفيسبوك كثيراً، ليس بسبب عدم اهتمامي به، بل إنّي أنقطع عنه أياماً بين حين وآخر بسبب مشاغلي. ومشاغلي ليست مفصولة عن الثورة السورية. لدّي مئات المحاضرات والمهرجانات والندوات والمقابلات ضمن أوروبا في ما يتعلّق بالثورة السورية. أحاول العمل على إيصال الحقيقة للرأي العام الأوروبي. كتابي عن تجربة السجن ترجم إلى لغات عديدة، والكتاب يشرح قصة القمع في عهد الأسد الأب واستجراراً وريثه، وتحوّل الكتاب إلى مسرحية عُرِضت باللغتين السويدية والإيطالية على المسارح، فهل ترى ذلك مجرد فيسبوك؟.
وقتي لا يتسع لكل ما أدعى إليه من ندوات ومحاضرات في أوروبا. أعرف أني أقدّم محاضراتي وأنا آمن في أوروبا، ولكن ماذا ينبغي عليّ أن أفعل غير ذلك وأنا في أوروبا منذ 11 عاماً؟
من يريد أن يعرف ما أقوم به يكفيه أن يدخل إلى اليو تيوب أو جوجل أو صفحتي على الفيسبوك. ولا ألتمس عذراً من أحد.. هذه هي طاقتي وإمكانياتي.
(7): كثير من السجناء السياسين الذين قضوا سنوات طويلة في المعتقل "تخرّجوا" مثقفين أو فاعلين في الشأن الثقافي، كتابة وترجمة وإبداعاً، أي انتقلوا من ضفة السياسي إلى ضفة الثقافي، في حين أنّك أنت على خلاف كثير من أصدقائك، كنت شاعراً ومثقفاً معروفاً قبل اعتقالك، وخضت تجربة العمل السياسي ثم اعتزلت وعدت إلى محارتك الأولى. سؤالي هنا: ما الذي قدّمه السجن لفرج بيرقدار على الصعيد الثقافي، هل تعد نفسك ابن السجن "ثقافياً" (إن صح التعبير) أم أنّ تكوينك الثقافي سابق على السجن؟، وفي هذه الحالة يكون السؤال: ما الذي أضافه السجن لتكوينك الثقافي المكوّن أساساً؟.
أعتقد أن تكويني الثقافي بدأ في المرحلة الثانوية والجامعية، ثم جاء السجن ليعطيني وقتاً ضائعاً لم يكن استثماره ممكناً كما ينبغي في سجن تدمر، ولكنه اختلف كثيراً في سجن صيدنايا. كانت إدارة سجن صيدنايا توافق لنا على شراء وإدخال أيّة كتب عليها خاتم معرض مكتبة الأسد. حينها أمضيت بضعة أعوام أقرأ الجديد وأعيد قراءة بعض ما قرأته سابقاً. ولكن رغم ذلك أعتقد أنّ ثقافتي كانت سابقة على تجربة السجن، وإن كان السجن حرَّرني من كثير من الأحكام المسبقة في ما يخصّ الشعر وأشكاله، وأيضاً في ما يخص السياسة والحياة... بتُّ ببساطة أكتب الشعر العمودي والتفعيلة والنثري بدون حواجز إلا إذا تعلّقت الشعرية بالشعر نفسه. هناك أمر آخر كبير الأهمية ولا ينتبه إليه المرء ربما لكونه في حكم البداهة، أعني الحياة والحوارات والخبرات المتنوعة لدى مئات السجناء الذين يتعايشون معاً لسنوات طويلة... ذلك رافد ثقافي واسع الغنى والتنوع.
(8): تبدو وحدة سوريا اليوم مطروحة على إطار البحث الجدي، فهل تعتقد أن سوريا بحدودها الحالية قابلة لأن تعود كما كانت؟ وكيف؟.
بالطبع لا أرى التقسيم حلاً أيّاً كان شكله أو أشكاله، ولا أظنّ ذلك خيار غالبية السوريين. ولكني لا أشغل نفسي الآن في هذا الموضوع. الأهم الآن هو سقوط النظام أولاً، وبعدها كلّ شيء قابل للحل. ألمانيا خضعت للتقسيم ولشروط جائرة من الحلفاء، ولكنها ها هي الآن موحدة وواحدة من أقوى الدول الأوروبية. فرنسا لم تستطع تقسيم سوريا في مطالع القرن العشرين، فلماذا يستطيع غيرها الآن؟ وإذا فُرِض التقسيم على السوريين بالقوة، فمن الذي يمنعهم من التوحّد لاحقاً؟.
(9): تقول في إحدى قصائدك "ليست حياتي إن لم تكن جديرة بالموت". مقطع من قصيدة قلته وأنت تحتفل بالحياة أيمّا احتفاء، ولكن إذ يقرأ اليوم على ضوء الموت السوري، أجدني أمام سؤال الموت هذا... موتنا. هل تستحق الحرية كل هذا الموت؟
الحرية يا صديقي، وأنت الأدرى، هي القيمة الأسمى في التاريخ البشري. لا أقول ذلك بوصفي سجيناً سابقاً، بل بوصفي إنساناً وشاعراً، فإن لم تكن حرّاً فإنّ حياتك موت، وبالتالي فإنّ حياة ميتة ليست جديرة بالموت الذي يليق بالحياة لا بنفسه.
(الصورة الرئيسية: الشاعر فرج بيرقدار في تالين، عاصمة استوانيا. المصدر: الصفحة الرسمية للشاعر على الفيسبوك بتاريخ 5 أغسطس 2013)