طول أمد الصراع السوري، وكثرة الضحايا من الطرفين، انعكسا اقتصادياً واجتماعياً على كثير من العائلات السورية، فمَن كان قادراً في عامي 2011 و2012 على تقديم المساعدة للآخرين بات اليوم يحتاج إلى المساعدة، ويعمل في مهن لم يتخيّل يوماً أن يعمل بها، إلا أنّ الأثر الأكبر كان على الصعيد الاجتماعي، إذ اضطر الأطفال وطلاب الجامعات والمدارس لترك دراستهم والالتحاق بسوق العمل بعد أن خسروا المعيل الوحيد (الأب أو الأم وأحياناً الاثنين معاً)، الأمر الذي جعلنا أمام شريحة سورية كبيرة كبُرت قبل أوانها، وباتت تحمل مسؤوليات تفوق أعمارها، دون أن يكون السبب الاقتصادي هو الدافع الوحيد، فالمستقبل القاتم وعدم وجود أفق لانتهاء الحرب، دفعا الكثير من الشباب إلى البحث عن مكان آخر لتأمين لقمة العيش، ما وضعهم في مواجهة مشكلات العمل بعيداً عن الأهل.
هي ظاهرة باتت واضحة في سورية، أن تجد طفلاً يعيل أهله، أو فتاة عشرينية تعمل لتعيل أهلها، أو شاباً يحمل السلاح مرغماً ليحمي عائلته من التشرّد والفقر، بكلّ ما لذلك من مضاعفات نفسية واجتماعية.
البحث عن مستقبل آمن
تقيم ريم عموري (فلسطينية سورية/20 سنة) في ألمانيا اليوم، فقد غادرت بعد أن حازت على شهادة البكالوريا إلى لبنان (شباط/ 2015) على أمل العمل والدراسة في كلية الحقوق، لأنّ أهلها غير قادرين على تحمّل مصاريف دراستها، وبحثاً عن أفق جديد للعيش بعيداً عن ضيق الخيارات في دمشق، إلا أنّها بعد أشهر من العيش في كنف عائلة صديقة وجدت نفسها عاجزة عن الاستمرار بسبب صعوبة أوضاع الفلسطينيين في لبنان، وعدم إيجاد عمل يمكِّنها من تحمّل العيش ونفقات الجامعة، ناهيك عن مساعدة الأهل، ما دفعها للعودة إلى دمشق، ثم اتخاذ قرار المغادرة إلى تركيا، حيث سافرت من دمشق إلى حمص بسيارة تابعة للأمن السوري، ومن حمص تابعت طريقها مع المهرّب إلى منبج، ثم إدلب، ثم تركيا، مشياً عبر الجبال، حيث ألقت الجندرما التركية القبض عليها لتسجن 12 ساعة ويتم إعادتها إلى إدلب، لتقوم في ذات اليوم بمحاولة تهريب ثانية عبر طريق آخر، حيث وصلت إلى إحدى القرى عبر الحدود، ومنها إلى كراج أنطاكيا بسيارة مغلقة، ثم إلى غازي عنتاب، وهناك بقيت أربعة أيام عند معارف لها، ثم إلى إسطنبول لمدة أسبوع، حيث أقامت عند عمها، لتغادر بعدها إلى اليونان عبر البلم الذي تعطّل بهم، فبقوا وسط البحر لفترة أربع ساعات، حتى جاء خفر السواحل اليوناني، وأقدم على سحب البلم إلى جزيرة ميتاليني، لتتابع ريم منها سيرها إلى أثينا عبر الباخرة بعد أن أخذت "خارطية" (ورقة طرد تعطيها السلطات اليونانية حتى تستقبلك مقدونيا، كما تقول ريم)، ومن أثينا تابعت رحلتها بالباص إلى الحدود المقدونية، ثم استقلت القطار إلى صربيا، حيث مشت حوالي 5 كيلو متر إلى أن وصلت إلى قرية، وهناك صعدت بباص إلى حدود كرواتيا، فهنغاريا، فالنمسا، حتى بلغت ألمانيا عبر القطار بتاريخ (7 اكتوبر 2015) لتحصل على اللجوء، لكن لم تكن هذه نهاية مشكلاتها.
الفتاة الصغيرة، وعلى الرغم من كل ما عاشته، وجدت نفسها فجأة أمام مسؤوليات عائلة، فمع أنّ السلطات الألمانية تتحمّل تكاليف المعيشة والبيت إلا أن ريم تقول: "أنا فتحت بيت، وعم أصرف على عائلتي (الأب والأم والأخ) في دمشق (الأب كان قبل الثورة سائق بشركة سياحية تعمل بين سورية والأردن والآن فقد عمله، والأم ربّة منزل والأخ (17 عام، لا يعمل ويتعلّم الآن مهنة الحلاقة) وأختي (13عام) جاءت بعدي أيضاً إلى ألمانيا، وهي تحت رعايتي، أشعر بأني مسؤولة عن عائلة، وبتّ أحسب حساب كل مشوار أو مصروف، وأنا في عمر لا يجب أن أفكّر أساساً بهذه الأمور" كما تقول لـ"حكاية ما انحكت".
الدوافع الاقتصادية
إذا كانت دوافع "ريم" اقتصادية ممزوجة بعامل البحث عن مستقبل آمن، فإنّ دوافع سمر (اسم مستعار/ 24 عاماً) تبدو اقتصادية بحتة، فالأوضاع الاقتصادية الصعبة والشعور بضرورة حماية العائلة وتحصينها في وجه الصعاب وعداء المحيط الذي وجدت العائلة نفسها بمواجهته بسبب خياراتها السياسية (الأب كان ناشطا سياسيا ومعتقلا سابقا)، ما اضطر العائلة لترك القرية في الساحل السوري بالقرب من مدينة بانياس، والذهاب للاستقرار في اللاذقية بعد استئجار بيت (غرفة وصالون) بمبلغ 17000 ل س شهرياً (الدولار آنذاك كان حوالي 300 ليرة سورية).
رحيل الأب إلى القاهرة للعمل ضمن صفوف المعارضة، وضع العائلة أمام خيارات أكثر صعوبة مرّة أخرى، إذ بعد أن وكَّلَ الأم بقبض راتبه التقاعدي (كان موظفاً في عدد من مؤسسات الدولة السورية قبل التقاعد، "قطاع السدود وشركة ريما") رفض الموظفون بادئ الأمر صرف الراتب التقاعدي للعائلة (13000 ل.س شهرياً) باعتبار أنّ "هناك أشياء مفقودة" وعليه دفع ثمنها (دفعت الأم ثمنها لاحقاً وعوّضت بعض المواد عينياً)، خاصة أنّ راتب الأم عليه أقساط لسحبها قرضاً من الدولة، ولا يبقى منه (راتب الأم) سوى المبلغ الذي يُدفع لآجار المنزل، ما جعل العائلة تعيش أياماً صعبة جداً، إلى حين الإفراج عن راتب الأب بعد وساطات عدّة، دون أن يعني ذلك حلّ المشكلات الاقتصادية للعائلة.
حاولت سمر تجاهل الأمر ومتابعة دراستها الجامعية في كلية الحقوق في جامعة تشرين في اللاذقية، خاصة أنّها كانت في السنة الرابعة، إلا أنّها لم تتمكن بسبب كثرة الأعباء المترتبة على أمر كهذا، ما دفعها لترك الدراسة والعمل في نادي ليلي ليلاً، وفي مساعدة إحدى العائلات في المنزل دون أن تخبر أحداً من أهلها عن عملها الثاني، باعتبار أنه "كان يومين في الأسبوع/ ثمان ساعات لكل يوم"، و"كي لا أشعرهم بتأنيب الضمير والعجز أكثر، لأنهم كانوا يلحون علي بإكمال جامعتي أولا". كما تقول سمر لـ "حكاية ما انحكت".
وقف الأب والأم وأختا سمر إلى جانبها، وهو ما ساعدها على التحمّل، باعتبار أنّ العائلة كانت تستعد للسفر، وباعتبار أنّ الأب منفتح، إذ "كان أبي ينتظرني ويجهّز لي العشاء بكل حب رغم مرضه"، وذلك بعد أن عاد إلى سورية ليُعتقل في (18 كانون الأول 2014) ويخرج بعد عشرة أيام مريضاً على حافة الموت بسبب التعذيب، الأمر الذي زاد الضغوط عليها، ناهيك عن الضغوط الخارجية مثل أسئلة سائقي التاكسي عن سببها عودتها ليلاً للمنزل، "فكنت أخبرهم كل يوم قصة مختلفة عن سابقتها... ناهيك عن تحمّل المضايقات من زبائن المحل" كما تقول لـ "حكاية ما انحكت".
ولكن رغم كلّ هذا الحب والتفهم من العائلة، هناك ضغوط لم يكن بإمكان سمر تحمّلها، ما اضطرها لترك العمل بعد أن أساء لها رب العمل لفظياً، ورفض على إثرها أن يعطيها مستحقاتها المالية، ليوافق بعد ذلك المدير المالي على منحها راتبها الشهري الذي كان يقدّر بـ 24000 ل.س (أقل من مئة دولار)، لتعمل في مهن أخرى، منها بائعة في محل للإسطونات (الأفلام والأغاني).
لم تكن حلا وحدها من ترك الدراسة، فأختها (22 عاماً) أيضاً تركتها، وعملت في قهوة، وهناك تعرضت للضرب من صاحب المحل، لكنها لم تخبر أحداً من أهلها بذلك، إلى أن أصبحوا جميعاً في مدينة ليون بفرنسا (18 كانون الأول 2015). إذ كنّ يعملن بصمت ويتحملن بصمت، رغبة منهن بعدم زيادة هموم العائلة.
وعمّا خسرته من شبابها وعمرها، تعلّق سمر عن الأمر لـ "حكاية ما انحكت": "اتحملنا ظروف أكبر منّا، وكبرنا قبل الآوان... ما عشت حياتي كما يجب، حالياً لست قادرة على استيعاب ما جرى معي، فرغم صعوبته هو أمر جرى لكل السوريين تقريباً.. حين كان أبي حيّاً، وقد كنت في كلية الحقوق، كان قد جمع مبلغ 400 ألف ليرة سورية (8000 دولار أنذاك) كي أتابع دراستي خارج سورية حين أتخرج ولأحصل على دكتوراه في الحقوق، ولكن بعد الثورة تراجعت قيمة الليرة السورية كثيراً، ولم يعد المبلغ يفيد بشيء، حينها شعرت بأني فقدت حلمي ربما، فانهار كل شيء لدي وبدأت أفكر بتفاصيل الحياة اليومية".
حمل السلاح ليحمي عائلته من الفقر
قصة "عصام" (اسم مستعار) البالغ من العمر اليوم ستة عشر عاماً، تحمَّل من المفارقة ما يقترب حدود الملهاة، فعائلته المكوّنة من الأم والأخت (ثلاث سنوات) والأخ (رضيع) اضطرت لترك منطقة السبينة جنوب دمشق بعد امتداد المعارك لها (منتصف 2012)، لتجد نفسها في بيت الجد لجهة الأم، وسط ظروف صعبة وضيّقة، جعلت عصام يهجر بيت الجد في رحلة تشرّد وضياع استمرت أشهر طويلة، إلى أن أتاه خبر استشهاد أبيه الذي كان منضماً إلى الجيش الحر (بداية 2015)، وبهذا فقدت العائلة أيّ سند لها، ما أجبره على التطوّع في قوات النظام، فـ "أمي وأخوتي بحاجتي، وأهل جدي لا يحبذون بقائي بينهم لأن أبنائهم يقطنون في شقة صغيرة غير قادرة على استيعابنا جميعاً، أعطوني سلاحاً، وأنا الآن قريبُ من أمي وإخوتي أقف على حاجز القدم، أجلب لهم النقود التي تجعلهم لا يحتاجون حتى أقرب المقربين".
إلا أنّ الأمر لم يطل كثيراً على هذا المنوال بالنسبة لعصام، إذ تمّ نقله إلى حرستا ثم جوبر، ليصبح في قلب الحرب الدائرة اليوم، ولكنّه يستقبل كلّ شيء بوجه ضاحك، إذ يقول: "بيت جدي يحتفون بي الآن، لقد خرجوا من بيتهم وسكنوا في مناطق القدم التي حرّرناها"، رغم أن كلمة "حرّرناها" التي تنطلق منه تثير الكثير من الأسئلة، خاصة أنّ أباه مات في صفوف الجيش الحر فيما هو في صفوف قوات النظام، الأمر الذي يعكس مدى وعمق التحولات، سواء أكانت تحوّلات حقيقية كما يشي بها ظاهر كلام عصام، أو مموّهة في سبيل الحفاظ على لقمة العيش.
انقلاب الأدوار هذا في العائلة السورية، له فوائده كما له مساوئه، حسبما تقول ريم لـ "حكاية ما انحكت": "فهو من جهة يعيق ومن جهة أخرى يفيد لأنه يعلّمك التجارب قبل الأوان، وبيخليك تتفتّح على الدنيا بكير، وهو مضر بحيث إنّه يمنعك من أن تعيش عمرك بشكل سليم، ويجعلك دائم التضحية بشيء مقابل شيء آخر"، لتتابع قائلة: "ما عاد عندي وقت فراغ، أستيقظ صباحاً، أجلب أغراض المنزل ثم أذهب إلى مدرسة اللغة، أعود إلى المنزل وأطبخ، يزورني أحد ما في نهاية اليوم فأشعر أني مستنزفة، وحياتي تمرّ دون هدف معين".
على العكس من ذلك، فالأمر عند سمر لم يكن له أيّة فائدة، فالفتاة خسرت جامعتها بعد أن كانت على أبواب التخرّج، وتحمّلت الكثير في سن باكرة، بحيث تشعر أنّ حياتها مبتورة، وهو الأمر الذي زاده رحيل الأب إذ "خسرت أبي (رحل بتاريخ 22 حزيران/يونيو 2015) ولم أستوعب أني خسرته حتى اللحظة، فبعد رحيله لا أعتبر نفسي خسرت شيئاً، لأنّي عملياً خسرت كلّ شيء برحيله". اليوم تبدأ سمر من الصفر في ليون، تتعلّم اللغة الفرنسية، تدرس في مدرسة السينما في ليون- قسم السيناريو، وكأنّ عمرها عاد ست سنوات إلى الخلف.
الوضع يبدو أكثر قساوة مع عصام الذي يقف يومياً في مواجهة الموت، فالحياة لم تترك له خياراً آخر، وهو في سبيل إنقاذ عائلته الصغيرة مضطر لأن يضع حياته في فم الموت، بكل ما يعني ذلك من آثار نفسية واجتماعية سيجد نفسها في مواجهتها لاحقاً.
الكبر قبل الأوان وانقلاب الأدوار بين الابن/الابنة المعيل والأم/الأب الغائبين أو العاجزين، هو واحد من إفرازات الحرب السورية، ومن الأمور التي ستترك آثارها السلبية على جيل سوري لا يشعر اليوم بمدى ثقل هذا الأمر ووطأته، لأنّ الحرب والغرق اليومي لتأمين لقمة العيش لدفع الموت والذل يهيمن على ما عداه.
(الصورة الرئيسية: عمل للفنان تمام عزام. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان على الفيسبوك)